سينما الهلوسة بين الجنون والعقل «سيبريا» يجنح للسريالية و«كل الطرق مغلقة» يتكئ على الواقع!

لاحظت أن الجمهور وأغلبهم من الصحفيين والنقاد فر بعضهم تباعا من دار العرض، وذلك أثناء عرض الفيلم السريالى (سيبريا) للمخرج الشهير آبل فيريرا، ولم يصمد سوى نصف الحاضرين، رغم أنهم توجهوا للعرض وهم مدركون طبيعة المخرج، وما الذى دأب على تحقيقه فى التجريب، أيضا اختيارات بطل الفيلم وليام دافو، مغايرة للسائد، فهما يتحركان فى نفس المساحة تقريبا، حتى الأفلام الأخرى التى لم يقدمها فيريرا لدافو، يظل النجم الأمريكى له بصمة خاصة فى اختياراته وهو يمثل فصيلة من النجوم يقدمون نغمة واحدة فى أغلب أعمالهم إلا أنها متعددة التنويعات.

مع نهاية العرض حظى المخرج فيريرا والبطل دافو بقدر من التصفيق الذى يجمع بين الصخب فى الإعلان عن نفسه وأيضا الخجل، الشريط السينمائى بل العمل الفنى بوجه عام يجب أن ينطوى على مساحة ما من الغموض، هامش يتم تقنينه، حتى يظل غموضا إيجابيا، يثير شهية الجمهور، أقصد أن يدعو المتفرج لكى يعيد تأمل اللقطة أو تفسير المشهد وربط العلاقات التى تبدو للوهلة الأولى تخاصم المنطق وأعنى به هذه المرة منطق المتلقى ولكنها بالضرورة يجب أن تتسق تماما مع رؤية مبدع العمل الفنى، المخرج الموهوب هو القادر على أن يتيح لجمهوره الفرصة لكى يتابعوا الشريط بعيونه ونبضه وإيقاعه، ويمنحوا إجازة مؤقتة لمنطقهم الخاص، لو لم يعثر المخرج على المساحة المشتركة، سيجد الجمهور وقد ذهب بعيدا عنه.

رحلة داخل النفس البشرية، أيا ما كان موقعك، الفيلم إنتاج مشترك إيطالى ألمانى مكسيكى، تستطيع مثلا أن تجد خطا عريضا أو مظلة تحوى هذا الفيلم، إنسان قرر أن يهرب من العالم الخارجى وينفذ إلى ذاته، المعادل الموضوعى لتلك الحالة كما رآها المخرج هى كهف ثلجى البناء يعيش بداخله، أحيانا يغرق فى البحر داخل الكهف وأخرى نراه يحتسى بنهم كؤوس الخمر، يقابل شخصيات من ماضيه نعتقد أنه والده، يهرب أكثر وأكثر، يسير على غير هدى وكأنه فى رمال متحركة تجذبه لأسفل، يلتقى مع امرأة يمارس الجنس، لا تشعر سوى أنه من خلال هذا المشهد يعود لمرحلة سحيقة مع الزمن الماضى وكأنه يستعيد البوهيمية، هاربا من الحياة مستجيرا بالأحلام والكوابيس فى محاولة مستحيلة منه ليفهم هو نفسه عمق تلك الحياة، مجرد شذرات من الحكاية، ولكنها بالضرورة ليست هى أيضا الحكاية، فأنت تتابع الشاشة بما تحتويه من مفردات.

مثل هذه الأفلام لا تمنحك خطا دراميا واحدا من الممكن أن تتتبعه وتتابعه ولكنها تترك دائما خطوطا أخرى مفتوحة للتفسير والتفكير، فهى لا تطرق بابا واحدا ولكنها تحرص على طرق كل الأبواب، تثير أسئلة بداخلك، وعندما تمنحك فى لقطة إجابة ما، فإنها فى نفس الوقت تصبح تلك الإجابة هى الدافع لمزيد من الأسئلة، قد ترى جزءا من نفسك أنت الحائرة لأنك من الممكن فى لحظات أن تتقمص حالة البطل، ويتردد بداخلك سؤال يتجاوز الشاشة للبحث عن جدوى الحياة. إنها سينما خالصة يصنع فيها التصوير والإضاءة والمونتاج والأداء التعبيرى للبطل دافو تلك الحالة، فهى أقرب لدراما الشخصية الواحدة، حتى لو تناثرت هنا وهناك شخصيات أخرى على هامش (الكادر)، ملامح دافو التى بطبعها بعيدة للوهلة الأولى عن تلك المرتبطة عبر الزمن بنجوم هوليوود فهى لا تصنف فى إطار الجمال أو القبح بقدر ما هى خاصة جدا، ولهذا تجده بطلا لأفلام خاصة جدا فى تناولها الفنى مثل (الإغواء الأخير للمسيح) و(بوابة الأبدية)، فهو يملك حضورا طاغيا يجعله مؤهلا لتقديم هذه الأدوار، الممثل يتحرك فى كل الأحوال وفق رؤية المخرج، وتلك السينما كانت ولا تزال تُشكل مساحة خلافية حتى بين النقاد المتخصصين، وهكذا احتل (سيبريا) الترتيب الأخير فى تقييم نقاد مجلة (سكرين) بين كل الأفلام المتنافسة الأخرى، لأنه مفتقد قناة التواصل.

من الممكن أن نجد ترديدا مصريا ومع اختلاف الدرجة لنُطلق على هذه الأفلام سينما (المهرجانات) لتقابلها على الجانب الآخر سينما الجمهور.

فيريرا فى هذا الفيلم الإيطالى الألمانى المكسيكى المشترك يقدم شريطا أقرب للحلم والكابوس بمنطق يخاصم التتابع المتعارف عليه، إلا أنه يملك بداخله منطقه وإحساسه وقانونه، إما أن تقبله برمته أو ترفضه كاملا، وأتصور أن نسبة الرافضين سواء أمام شاشة العرض أو فى المتابعات النقدية كانت هى الغالبة.

■ ■ ■

على الجانب الآخر تماما جاء الفيلم البريطانى (كل الطرق مغلقة) للمخرجة سالى بوتر، وسط حفاوة جماهيرية ونقدية. بطولة خافيير بارديم ووايل فانينج وسلمى حايك. إنها هلاوس بين رجل وابنته، يبدو الأب فاقدا قدرته على التمييز، من الممكن أن تصنف المرض الذى يعانى منه البطل بأنه يقف على مشارف (ألزهايمر)، فى لحظات مثلا يخرج حافيا وناسيا اسمه ويذهب للمقبرة فى مشاهد تجمع بين الحلم والكابوس، متذكرا ابنه الراحل ومقبلا مقبرته ويشعل له الشموع ويبكى افتقاده وهناك يلتقى مع سلمى حايك، عندما يعثرون عليه فى الطريق لا يعرفون حقيقة اسمه وهو لا يتذكر أيضا شىء، الرؤية البصرية التى قدمتها المخرجة البريطانية تتعامل بواقعية مع الشخصية المحورية ولا يضعها فى إطار التجريب ويمنحك مساحة لتأمل ما بعد الكادر.

نوع من الإبداع عبر عنه فى فيلم (سيبريا) المخرج فيريرا مع بطله وليم دافو بهلوسة جانحة، وأخرى (كل الطرق مغلقة) للمخرجة سالى بوتر مع خافيير بارديم بهدوء مبدع وعاقل!!.
(المصري اليوم)

التعليقات