ولم تكن تعرفني

قالت لي الشابة العشرينية ذات الوجه الناحل وهي تنقل نظرها بيني وبين جهاز الكمبيوتر: أي خدمة حضرتك؟ فأخذتُ بعض الوقت حتى أرّد. أدرك تمامًا تلك النظرات المتقطّعة التي ترمقني بها من ثانية لثانية أخرى.. نظرات تفصح عن أنه ليس هناك بيننا سابق معرفة. نعم لها عينان سوداوان واسعتان بشكل ملحوظ، لكن اتساعهما فيما يبدو لا يكفي ليدخلني في دائرة معارفهما. رددتُ عليها بهدوء: نعم أريد خطابًا بحركة حسابي موجَهًا لسفارة كذا، فأومَأَت بلطف وشَرَعَت في التنفيذ. راودتني لثوانِ فكرة أن أقول لها إنني كنت مُدرسّتها في الكلية لمدة فصلين دراسيين كاملين، لكني أحجمتُ أو بمعنى أدق فإنني "اتكبست" كما يقولون وخشيت إن أنا ذكّرتها لا تذكُر. مممم.. ماذا ترك لنا الشبّان الصغّار لننساه إن هم نسوا وجوهًا كانوا يطالعونها لمدة عام دراسي كامل؟ صحيح أن هذه الفتاة ربما تكون دفعة ٢٠١٩ أو ٢٠٢٠، لكن هل يكفي عامان أو ثلاثة أعوام كي تكون ستاير النسيان نزلت بقى لها زمان على حد تعبير مرسي جميل عزيز؟ غريبة.. فهذه الفتاة كانت مواظبة على الحضور، واستقبلتُها مرة واحدة على الأقل في مكتبي، أما هذه الدبلة الذهبية في يدها اليمنى فأنا ربما أعرف حكايتها ولعلي أتوقّع الشخص صاحب النصيب لأنه كان يلازمها داخل المدرّج وحين صححتُ ورقة إجابتها ووجدتُ أنني صادفتُ نفس الأخطاء في مكان ما كان هذا المكان هو ورقته، ساعتها أحببتُ جدًا هذا السر الحميم الصغير بينهما وصنته. وبعد ذلك كله فإنها تسألني أي خدمة حضرتِك، وعندما تقرأ بياناتي الشخصية تبتسم ابتسامة ممزوجة بالدهشة وتعلّق: ده حضرتِك معانا في سياسة واقتصاد! نلاحظ هنا أن كل ما سبق يقوم على افتراض أن طالبتي هي التي لم تتذكّرني لكن مَن أدراني أنني لستُ أنا التي تخلط بين ملامح هذه الفتاة وملامح إحدى طالباتي السابقات؟ كل شيء جائز وإن كنتُ أعلم جيدًا أن مشكلتي عادة ما تكون مع الأسماء وليس الملامح، فأنا أذكر الوجوه جيدًا وأذكر حتى أين التقيتها وفي أي ظروف لكن الأسماء هي التي تهرب مني. ثم لماذا لا أفترض أن هذه الفتاة هي طالبتي فعلًا لكني لم أؤثر فيها ولا جعلتها تحتفظ بذكرى تربطني بها؟ آه هذا الأمر إن هو صحّ فإنه يكون شيئًا موجعًا، لأن المدَرس غير المؤثّر في طلابه يكون غير جدير بالتدريس، والمدَرس الذي لا يضع روحه على طرف لسانه وهو يشرح لا يكتسب أدوات الصنعة، وأنا أقول يكتسب ولا أقول يمتلك لأنه فيما عدا استثناءات قليلة لا يولّد المرء مدرّسًا لكنه يكتسب ملَكة التدريس بالممارسة، وربما لا يكتسبها أبدًا.
• • •
قد يبدو مدهشًا بعض الشيء أنني أعطي كل هذا القدر من الاهتمام لواقعة بسيطة، فماذا في أن تنساني طالبة أو حتى عدة طلاب؟ لكن الأمر في الواقع أكثر تعقيدًا مما يبدو، فالأصل في أيامنا هذه أن الطلاب يأتون للجامعة لكن لا يدخلون المدرجّات، ولديهم عشرات الأعذار والشهادات الطبية وكل أنواع الحيل التي تبرّر غيابهم وتجعل مواقفهم قانونية مائة بالمائة. هؤلاء الطلاب من الطبيعي جدًا إن نحن التقيناهم خارج الجامعة لا يعرفوننا ولا يميّزون ملامحنا، هم أصلًا لم يشعروا بالحاجة لرؤية وجوهنا ولا وجدوا أنها ضرورية، فقط امتحاناتنا "السهلة" هي الضرورية ودرجاتنا "الحلوة" أكثر من ضرورية. ولذلك فإن تجاهُل هؤلاء لنا لا يعني شيئا بالمرة وهو لا يؤلمنا، وكان هذا هو الحال عندما سألتني طالبة قبل عدة أعوام عن اسم "دكتورة المادة" وكان سؤالها في اليوم المخصّص لامتحان مادتي فلم يستفزّني سؤالها لأنني لم أرها من قبل، وهي معذورة إن لم تعرفني. اصطنعتُ الجديّة وأجبتها: اسم دكتورة المادة فلانة الفلانية، فأبدَت امتنانها ومضت تدوّن اسمي على ورقة إجابتها. هذا إذن نسيان مشروع، لكن حين يواظب طلاب على حضور محاضراتك، وتستثمر فيهم كل ما تملك من معرفة وخبرة وتجربة الأمومة ثم تفاجأ أن نقشك في نفوسهم كان كمثل النقش على الماء، فهذا الموقف يؤلم.. وقد يؤلم جدًا. عن نفسي لم أنس أستاذًا درّس لي قط، لا في المدرسة ولا في الجامعة، الكل أثّر فيّ لكن بدرجات مختلفة، فبين أساتذتي مَن تعلّمت منه وقلّدت طريقة نطقه وتمنيتُ لو أكون مثله في يوم من الأيام، وبينهم في المقابل مَن رهبته وتحاشيتُ المرور حتى بالدرج الذي يصعده، بينهم مَن شجّعني وأخذ بيدي ومنحني الثقة وعلى العكس منه كان هناك مَن أحبطني وأبكاني.. مَن ومَن. يبدو لي مخي حافلًا بمجموعة من الدهاليز المملوءة بآلاف الوجوه التي التقيتها على مدار حياتي، وبين هذه الوجوه بالتأكيد توجد وجوه أساتذتي جميعًا.
• • •
إن سألني أحد متى ترعرع في وادينا الجامعي كل هذا الغياب وكل هذا العزوف عن المدرجات وقاعات التدريس حتى صار الحضور هو الاستثناء، لن أستطيع أن أجيبه على وجه الدقة، فجيلي كان يحضر وأولادي من بعدي كانوا يحضرون وربما الجيل الذي يليهم أيضًا ثم بدأ التغيّر واستمّر واتسّع. كان هذا هو الحال زمان رغم أنه على أيامي مثلًا كانت الكافيتريات الجامعية في أوج ازدهارها، وكانت كافيتريا كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالذات بؤرة ساخنة للنشاط الاجتماعي والسياسي، لكن كان لكل مقام مقال. الآن اختلطت المقامات والمقالات، ورغم اختفاء الكافيتريات الجامعية الشهيرة إلا أن حدائق الجامعة ما زالت موجودة ودار الضيافة وسلالم الكليات وسيارات الأساتذة أيضًا موجودة، وجميعها يوفّر مساحات للتفاعل خارج أبواب الكلية حيث وجوه الزملاء وليس وجوه الأساتذة. هل اتضحّ الآن عنصر الندرة الذي تمثّله الطالبة/موظفة البنك إياها؟ آمل ذلك. عندما سلمّتني كشف حسابي كما طلبتُ منها، هزمتُ ترددي وقررتُ أن أكسبها بعد التخرج طالما إنني خسرتها لسبب مجهول أثناء الدراسة، وكنت أدافع عن مهنتي ومهنيتي وأنا أقول لها: على فكرة إحنا نعرف بعض كويس. فوجئت الشابة ذات الوجه الناحل وانتبهَت وسألَت، لكن الأمر احتاج منّا أن نتبادل أرقام التليفون كي لا يطول طابور العملاء أكثر.

التعليقات