عن الفن والربح والابداع

العين تعشق الجمال. ورؤية منظر جميل يملأ نفس الإنسان إعجاباً وسروراً. هذا الإعجاب بالجمال هو الذى كان يستخدم لتفسير ميل الإنسان إلى الإبداع الفنى. وشاع فى بداية الفلسفة أن جوهر الفن هو محاكاة الطبيعة. ويحكون فى اليونان القديمة عن الفنان زيوكسيس الذى رسم عنقوداً من العنب كانت الطيور تخطىء وتحط عليه بحثاً عن الغذاء. لكن هذا المعيار نفسه أصبح فيما بعد مبرراً للتشكيك فى أهمية الفن وقيمته.

ففى فلسفة أفلاطون الكمال يوجد فى الفكرة أو المثال أما الأشياء المادية فتكون صورة زائفة لهذا المثال. المثال العقلى للشجرة هو الكامل أما الأشجار التى نراها فى الطبيعة فهى صور ناقصة ومؤقتة وفانية لهذا المثال الخالد، فما فائدة أن يأتى فنان ليرسم لنا صورة زائفة لهذه الصورة التى هى  في الأصل زائفة؟ جهد بلا جدوى وطاقة تذهب سدى.

كان يلزم إذن التخلص من ربط الابداع بمحاكاة الطبيعة. لهذا مال الفلاسفة إلى إهمال الحديث عن الجمال وفضلوا استخدام مصطلح الفن. وقد حدثت هذه النقلة فى عصر النهضة وأدى هذا الاستخدام إلى استبعاد الطبيعة وقصر الأمر على الإبداع الإنسانى. ولكن هذا المصطلح بدوره تسبب فى نوع من الخلط. فقد كانت كلمة فن تشير إلى عمل الحرفيين والفنانين على السواء ويعادلها فى اللغة العربية أيضاً كلمة صناعة، فيحدثنا ابن خلدون فى مقدمته عن صناعة الموسيقى والغناء. من هنا جاءت أهمية  التمييز بين ما ينتجه الفنان وما ينتجه الصانع. فالصانع ينتج أشياء معدة للاستخدام يحتاج إليها الإنسان ويتم التخلص بعد إستهلاكها. أما ما ينتجه الفنان فهو باق ومستمر ويظل رغم مرور السنوات محل إعجاب. صحيح أن هناك مهارة فنية فى التعامل مع المادة تجمع بين الحرفى والفنان ولكن الحرفى إذا كان نجاراً أو حداداً أو خزافاً ينتج حرفته طبقاً لمعايير محددة فى الصناعة، أما الفنان فيكسر هذه المعايير ولهذا يأتى عمله مبدعاً ومدهشاً. هذا الابداع جعل العمل الفنى يقترن بهالة من التقديس كانت هى السبب وراء إنشاء المتاحف الذى بدأ مع عصر النهضة والذى يعكس التمييز بين الفن والجمال الطبيعى من جانب والتمييز بين العمل الفنى والعمل الحرفى من جانب آخر. ولهذا يرى هيجل أن العمل الفني مهما كانت جوانب النقص فيه يظل أسمى من أي منظر طبيعي لأنه تحقيق للروح الانساني.

بعد تخليص الفن من فكرة البحث عن محاكاة الطبيعة يظل السؤال مطروحاً عن جوهر الفن. وهنا تتعدد التفسيرات. هناك من يرى أنه تعبير عن المشاعر باستخدام لغة خاصة وهناك من يرى أنه قدرة على تجسيد الخيال فى صورة مادية ملموسة، ومن يرى أنه مرحلة في التعبير عن الحقيقة قبل أن تتبلور في صورة عقلية واضحة. ومن يرى أنه ينبع من بحث الإنسان عن الكمال حتى أن أوسكار وايلد قلب الآية قائلاً: الطبيعة تحاكى الفن.

 العلوم الإنسانية التى نشأت مع بداية الحداثة تناولت  الظاهرة الفنية بالتفسير سواء من جانب المبدع أو من جانب المتلقى. فيحدثنا علم النفس عن الدور المهم للاوعى فى عملية الإبداع وميل الفنان إلى تحقيق المكبوت عن طريق التسامى، ويحدثنا علم الاجتماع عن إرتباط عملية الإبداع بالسياق الاجتماعى الذى تنشأ فيه، وكذلك عن استخدام الفن نفسه كأحد عناصر فرض الهيمنة الطبقية من خلال التمييز بين الفن الراقى والفن الشعبى.

قلنا أن العمل الفنى ليس مرتبطاً بمنفعته. وفى عصرنا الحالى خيم الإقتصاد على كل أنواع النشاط الإنسانى وكثر الحديث عن الصناعات الثقافية. والمقصود هو تحويل الإبداعات الفنية إلى سلع متاحة للجمهور العام بمقابل مادى مما يجعل الفن يدر ربحاً. وهو أمر لا غبار عليه إذ أنه يتيح المنتج الفنى للجميع. ولكن  هنا أيضاً مكمن الخطورة إذ أن إخضاع الفن لمنطق السوق يجعل الجمهور بمعاييره وميوله هو الذى يتحكم فى الفنان، فى حين أن منطق الإبداع الذى يعد جوهر العمل الفنى يقتضى أن يكون الفنان مستقلاَ وذا سيادة، لأن الابداع يتطلب تجاوزاً للقواعد المتعارف عليها وأحياناً مجافاة للذوق العام. ولهذا يخشى أن يؤدى الإهتمام بالصناعات الثقافية إلى تهميش الإبداع والتضييق عليه وهو ما سيكون ضاراً بالصناعات الثقافية نفسها على المدى البعيد. لذلك ينبغى السعى إلى إتاحة المناخ الملائم للإبداع وما يحتاجه إليه من رعاية وقبل ذلك ما يجب أن يتوفر له من حرية.

نقلًا عن الأهرام..

 

التعليقات