ما بين الفكر الدينى والحداثة

وما بيننا وبين حمَلَة مشاعل الدولة الدينية خلاف متعدد ومتجذر، وجدار حاجز يصعب تسلقه أو حتى فتح طاقة فيه للمرور بسلام للمحاورة والعودة فى أمان. لا عودة لمن دخل يحاورهم سليما، فإما أن يُكفّر أو يعود يتسربل بجلبابه ويحف شاربه ويطلق لحيته، ومنها ما وصل إليه هذا التيار من تقديس الحلول والمواقف التى قدمها الدين فى بدايات الدعوة وعصر الخلفاء الراشدين منهم وما بعدهم.. فإذا ما واجهتنا حاجة، أو حزبنا مطلب، أو صعب علينا موقف، استداروا يبحثون عن موقف لأحد الأشخاص قد نال الحاجة والمطلب دون عناء يذكر أو جهد معلوم، إلا أنه قد رفع يديه إلى السماء فأجيب، أو طلب المعجزة فتمت على يديه، وكأنها معجزة لمرة واحدة فى العمر يراها بمفرده، ويتناولها نقلا عنه الرواة والحكائون دون توثيق أو تأكيد، إلا أن تقديس هذه المواقف وهذه الحلول لا يصح لنا الركون إليها الآن.. وليس من العقل رفع منزلتها إلى اليقين، أو اعتبارها نموذجا نقف عنده حتى تأتينا كما الأولين، فربما كانت من نسج خيال الرواة والقصاصين، وإلا انتظرنا الحل بقية العمر وقوفًا على باب الرجاء.

 

ولو أنى معتزلى المنهج والفكر إلا أنى لا أرفضها كما رفضوها، وأنسخها كما ينسخونها بالكلية، فكل ما يخالف ويناقض العقل عندهم مرفوض، حتى النص ذاته وجب تأويله حتى يتوافق.. ووصل الأمر إلى رفض كل الغيبيات، كالصراط وعذاب القبر والملائكة وغيرها كثير.. إلا أنى أميل إلى عدم الصدام مع المخالف، والمرور على الحافة بين الرفض والقبول «رِجل برّه ورِجل جوّه» وأسحب «وأسْلِت» الموافقة بهدوء وأعتبر أن هذه المواقف بما لها وما عليها لها ظروف ومواقف خاصة، وخيال قد ارتضاه الناس، وتفاعل مقبول مع واقع الحياة الذى يعتمد المصادفة والمعجزة والغيب والقوة الخفية نموذجا للحل وتفسيرا معتبرا للظواهر الطبيعية والإنسانية.. وكان كل هذا محل رضا وقبول، فلم يكن من مبرر فى هذا الزمان غير ما كان، وأجازه العقل على قدر علمه وفهمه وما أتيح له من إدراك.

 

والحقيقة أن الأديان كلها قد تفاعلت مع هذا الخيال بأشباحه وصوره وأساطيره، وتناقلتها بتصرف أحيانا كثيرة، حتى تمر بهدوء وبسلام دون صدام مع هذه الأكتاف المتلاحمة والعقول الراضية الساكنة. وهذه الإشكالية للمعجزات والخوارق والحلول الغيبية والقوة التى تقهر الواقع وتحوله لصالح المسلم، والمصادفة التى تبحث عنه دون خلق الله فتصيب مراده وأمانيه، لم تكن إلا منهجا بدويا معتمدا وموروثا تاريخيا وسلوكا صحراويا معتبرا، لا حل أمام صاحبه إلا الانتظار والصبر على ما تجود به السماء من رزق، وما تحن به الطبيعة وتعطف، وماذا يفعل إذ تجف وتنشف وتبخل الأرض بما رحبت؟ وماذا هو فاعل عند القحط الذى يحيط به وقلة المطر والماء والزرع وجفاف الضرع؟ اللهم إلا الصبر وانتظار الفرج من السماء، أو مصادفة تصيبه ويصورها معجزة قد حظى بها دون غيره، فهو لا يعتمدها ظاهرة طبيعية فقط، لكنه غلَّفها بخرافة خاصة، وكأن السماء قد جاءته بالحل واختارته من بين الجميع وفضّلته على غيره.

 

وإن كانت كتب التراث زاخرة بهذه المعجزات والمصادفات الخارقة والغريبة، وقد كانت مناسبة لظروف عصرها من جهل وظلام وتعتيم كما ذكرنا، إلا أن تمسك فصائل هذا التيار بهذا المنهج فى ضوء العلم والأسباب أمرٌ يدعو إلى الغرابة، فمازالت هذه العقلية تسير نفس المسار، فإما أن تتبنى الخرافات والأساطير على المنابر تدغدغ وتلاعب وتداعب بها مشاعر العامة وتعدهم بالأمانى الحسان فيصبرون على البلاء ويهربون من الواقع، أو تتبنى فتاوى للفقهاء ليست بعيدة فقط عن اللامعقول، بل تجد من يروج لها عند فئات متعلمة، وتحمل من الشهادات العلمية التى تفند وتسفه هذا الرأى، فهؤلاء أطباء درسوا وتعلموا وتخرجوا فى كليات الطب، ويعلمون علم اليقين أن مدة الحمل لا تتجاوز تسعة أشهر بأيام معدودة مهما كانت الأسباب، وإلا مات الجنين أو الأم أو هما معا، إلا أننا نجد من هؤلاء من يتبنى خرافة الحمل أربع سنوات أو ثلاث.. وليس هذا بمستغرب، فما جاء به الفقهاء هو ما كان معمولا به فى الجاهلية، وكان مسموحا به ومتاحا، واستمر معهم حتى أفتوا به وجعلوه من صلب الشريعة والدين.. وهذا الذى يدرس القانون الدولى، ويعظم حدود الدول وحرية الرأى والعقيدة، ويُصرّ فى نفس الوقت على تبنى عقيدة الجهاد ضد الكفر والكافرين أينما وُجدوا وحَلّوا، وهذا المعلم الذى يصر على ضرب المرأة وتأديبها وهو على يقين بأن الضرب ممنوع فى المدارس «وفقا للتربية الحديثة» ويعلمها للأجيال، إلا أنه يقبل بضرب أمهاتهم من الناحية الشرعية، ويا للعجب!.

 

لابد أن يتشارك المسلمون مع العلم، ويقدسون البحث العلمى ونتائجه ونظرياته، وما يستجد منه وما يستحدث، فهو فضل ونعمة من الله، وأن يتم الاستغناء تماما عن كل هذه التفاسير والخرافات التى تتناقض مع الواقع، والتسليم للعلم فقط ونتائجه وما يستحدث من نظريات.

 

«الدولة المدنية هى الحل»

 

التعليقات