حكاية الأهرام

حكايات الأهرام لا تنتهي, وأنَ لها أن تنتهي, وهي تواصل تقدمها في الزمن, عابرة لثلاثة قرون منذ نشأتها, متخطية أزمات طاحنة, متأثرة ومؤثرة في قضايا مصر والعالم العربي, التي واكبتها, منذ صدور العدد الأول في يوم السبت الخامس من أغسطس سنة 1876, وحتى العدد رقم 50 ألفا, الذي يصدر بإذن الله الأحد (29 أكتوبر 2023)..  

وإذا كانت الأهرام كجزء من رؤيتها المبكرة للاتصال الصحفي بالجماهير, تحتفل بانتظام مدهش بكل محطة زمنية تمر بها, فإن الاستمرار والتراكم المعرفي للمؤسسة عند هذه الجماهير بالذات, كفيل بجعل الاحتفال, مناسبة تتجاوز كونها تخص النخبة الصحفية, إلى الرأي العام.

كيف لهذه الجريدة أن أتتها كل هذه الثقة إعتبارا من العدد (صفر) في ذلك الزمان البعيد لتعرف أنها تخطط لسنوات طويلة قادمة.
 فنرى المؤسسين لها (اللبنانيان الشقيقان سليم وبشارة تقلا) بعد أن حصلا على الترخيص في 27 ديسمبر 1875 يعكفان على دراسة واستطلاع سوق الصحف والاشتراكات والإعلانات والدعاية والوكلاء في مصر والعالم. 

وبعد سبعة أشهر يصدران من مقر الجريدة بالإسكندرية, ما نسميه "بروفة" كدعاية وترويج ولكي يطالعها القراء ويعطوا انطباعاتهم. 

فأصدرا "مثال الأهرام" في ورقة واحدة في 15 يوليو 1876, كنموذج لما ستكون عليه الجريدة. 

ويكتب سليم: إن الجرائد أنشأت في جميع بلاد الجنس المتمدن وتسابق أهلوها على إحرازها والانتفاع بها, فالصحافة هي لسان الأمم وملاذ الجماعات. 

لم تكن هذه لغة جريدة ستصدر لهدف ومهمة مؤقتة أو غرض ومصلحة عابرة, أو تركن إلى الصمت عند أول منحنى خطر. 

ولأن القارئ دائما هو حليف أي صحيفة, فقد توجه إليه الصحفي المثقف البارز سليم تقلا يدعوه إلى تشجيع الجريدة, ويطالب حملة الأقلام البليغة ليزينوا جريدته بما يسطرونه من بديع الكتابة. 

وكتب أن الجريدة ستكون سياسية وعلمية وتجارية، وأنه سينشر فيها الإعلان, علي الرغم من أن خطاب سليم إلى ناظر الخارجية تعهد بألا يتطرق الي السياسة. 

ولا يعرف كثيرون أن الأهرام صدرت كأسبوعية أولا (كل يوم سبت), قبل أن تتحول إلى صحيفة يومية اعتبارًا من عدد 3 يناير 1881. 

وكشفت الأهرام منذ سنواتها الاولى عن دراية واسعة بأصول العمل الصحفي وتجديده, ودلت أخبارها وتحليلاتها عن اتصالات وعلاقات قوية مع مصادر الأخبار, وصانعي القرار في البلاد. 

وفاجأت قراءها بحوار نادر مع خديو مصر اسماعيل باشا, وحصلت منه على تأييد لفتح باب مجلس النواب ومجلس الشورى أمام مندوبي الصحف لنقل الاخبار.

ومع الأهرام اليومي غيرت الجريدة شعارها من الهرمين وفي وسطهما تمثال أبي الهول, إلى أسم الأهرام بالعربية وأسفله بالفرنسية في أعلى الصفحة, وتحت الشعار كتبت: جريدة يومية سياسية تجارية أدبية فكاهية, وغيرت شعارها بعد ذلك في سنة 1906, ثم في سنة 1913, ثم في 1930 إلى شكل الاهرامات الثلاث وفوقها اسم الأهرام.

وبدلت الأهرام أسلوب السجع السائد في الكتابة الصحفية إلى نثر حر سريع ومختصر, وأنشأت مطبوعات أخرى مثل صدى الاهرام ومجلة المنارة ومجلة حقيقة الاخبار وجريدة الوقت, وعندما عطل الزعيم أحمد عرابي الأهرام بضعة أسابيع أصدرت جريدة الأحوال. 

وبعد أن دمرت قذائف الأسطول الانجليزي مقر الجريدة في الإسكندرية, عاد بشارة تقلا وأقامها من جديد وعاودت الصدور. 

وبعد سنوات قليلة قرأ مسئولوها خريطة الانتشار الصحفي وأهمية وجودها في القاهرة العاصمة السياسية للبلاد.

وانتقلت الصحيفة إلى القاهرة اعتبارا من شهر نوفمبر عام 1899, قبل أيام من بداية ألفية جديدة, سيكون لها أحوال أشد تأثيرا في رسم خريطة العالم والمنطقة العربية ومصر في القلب منها. 

لم تترك الأهرام عنصرا يمكنها من السبق الصحفي ولم تقدم عليه، وكانت في المقدمة من صحافة سائدة هي صحافة الرأي فنشرت في الصفحة الأولى مقالات رأي لأهم الأقلام, لأحمد لطفي السيد وأحمد زكي والمنفلوطي والنابغة مي زيادة وطه حسين. 

ولأن الشعر مازال يشكل ذائقة الجمهور نشرت القصائد في الصفحة الأولى لشوقي وحافظ والعقاد ومطران، واستمر النهج في الأهرام مع رؤساء التحرير الذين تناوبوا المنصب الرفيع, وكانت مثابرة الأستاذ محمد حسنين هيكل ـ على سبيل المثال ـ في استقطاب النجوم الزاهرة في الصحافة المصرية, امرا واضحا؛ فقد ضم للأهرام توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وثروت أباظة ولويس عوض وغيرهم. 

ويبدو أن الأهرام على موعد أو ينبغي أن يكون لها, بعد عامين من الآن, للاحتفال بـ150 سنة على صدورها, وأظن أنه سيكون احتفالا كبيرا, يتوجب أن تجرى الاستعدادات له من الآن, لأنه يمكن أن يكون احتفالا بتاريخ مصر عبر المائة والخمسين عاما الماضية, ما واجهته, وما نجحت فيه, وما أخفقت, في السياسة والثقافة والاقتصاد.

فمناسبات الأهرام هي بطبيعة الدور والإنجاز مناسبات للوطن, وقد قال الإمام محمد عبده عنها يومًا: "يا لها من جريدة"..

نقلاً عن الأهرام..

التعليقات