العلمين وألغامها

أعجبني تعبير لاعب الأهلي والإسماعيلي السابق محمد فضل في برنامج "صباح الخير يا مصر" على القناة الأولى للتلفزيون المصري, عندما قال إن العلمين تحولت من مدينة ألغام لواحة ترفيهية. هذا العنوان الجميل الذي يصف القمة الظاهرة من جبل الثلج أعادني إلى قصة العلمين وألغامها.
 
والعلمين هما جبل الملح وجبل الطير التي تتواجد بينهما (والجبل هو العلم باللغة العربية) وهي كانت في القلب من الفصول الحرجة في الحرب العالمية الثانية, حيث المواجهة الحاسمة بين القائد الألماني روميل والقائد البريطاني مونتجمري. 
 
في تلك الأيام وعن طريق مسرح العمليات في العلمين سنة 1942, عرفت مصر الحرب الكونية, التي قررت الحكومة فيما بعد المشاركة عسكريا, في غضون سنة 1945, حيث انخرطت إلى جانب الحلفاء الأمريكيين والأوروبيين وغيرهم من هنود وأستراليين, ضد دول المحور الذي يتشكل من ألمانيا وإيطاليا واليابان.
وعانت الإسكندرية والقاهرة من الغارات الجوية والقصف في صيف وخريف سنة 1942, وانقسم الشارع السياسي والرأي العام ما بين دعم الحلفاء, وتأييد أو الرغبة في انتصار المحور. 
 
وشهدت الشوارع هتافات ضد الإنجليز المحتلين لمصر, والدعوة لروميل بالتقدم..
 
أدبيات وذكريات عميقة لتلك الحرب, رصدتها الأفلام والروايات المصرية, ولم يكن الأمر ترفًا بل حقيقة مؤلمة, لم تنته أوجاعها بنهاية الحرب, وامتدت للحاضر, حيث تغتال الألغام أحلام التنمية, كما تنفجر كل حين لتفتك بأحد الأبرياء.
 
ويبدو أن العلمين وما حولها زرعتها القوات المتحاربة بكافة أنواع الألغام, في الوقت الذي لم يكن أحد يجزم بنتائج الحرب. 
 
ويكفي أن مقر القوات البريطانية في القاهرة, وبعد احتلال القوات الألمانية والإيطالية مرسى مطروح والعلمين واقترابهما من الإسكندرية, باشرت حرق الأوراق على عجل. وسافر موسوليني إلى ليبيا للتحضير لدخول القاهرة منتصرًا. 
 
وكانت مشكلة روميل في الإمدادات التي تصله عبر مئات الكيلومترات, بينما إمدادات القوات البريطانية أقرب, ما أدى إلى هزيمته في شتاء عام 1942.
 
والمثير للدهشة هو ما ذهب إليه كاتب شعبي غير معروف يدعى محمد علي أحمد (له كتاب بعنوان أم كلثوم) بأن القوات البريطانية خشيت من خطف أم كلثوم ونقلها إلى برلين إذا اقتحم الألمان القاهرة لتغني من هناك, فيميل الشعب المصري إليهم.
 
كان تناول موضوع التنمية في العلمين بخاصة والساحل الشمالي عمومًا يبدأ وينتهي بأزمة الألغام, حيث رصدت مصر وجهات دولية على رأسها الأمم المتحدة في تسعينيات القرن الماضي, وجود 23 مليون لغم، موزعة أو مخبأة فيما يوازي 22 في المائة من مساحة مصر, معظمها في الساحل, وحول مدينة العلمين.
 
كانت الوزيرة فايزة أبوالنجا من أكثر أعضاء الحكومة تحمسًا لحل هذه الأزمة, وأجرت العديد من جولات المباحثات مع أطراف دولية, من بينها مسئولو اللجنة الدولية للصليب الأحمر, وكان الرد دائمًا ألا أحد يمتلك خريطة الألغام في مصر, والموزعة ما بين الساحل الشمالي ومنخفض القطارة وبعض مناطق سيناء.  
 
ويلزم القانون الدولي الجيوش التي زرعت الألغام بإزالتها, ونشرت "الأهرام" في شهر يونيو 2007 أن مصر أكبر دولة في العالم من حيث الألغام المدفونة في أراضيها, واستندت في ذلك إلى أرقام لجنة الشئون العربية والخارجية والأمن القومي بمجلس الشورى. 
 
لكن الدولتان المتصادمتان في العلمين واللتان زرعتا الألغام بشكل مباشر تنصلتا من المسئولية عن حدائق الشيطان, فألمانيا بررت بأن سنوات طويلة مرت وبالتالي سقوط المطالبات وأن مصر كانت طرفًا في الحرب, وبريطانيا زعمت أنها كانت تحمي مصر طبقا لمعاهدة 1936 وبناء على طلب الملك والحكومة. 
 
وبضغوط مارستها القاهرة فإنها حصلت ما بين عامي 2007 و2018 على مليوني دولار من ألمانيا ونصف مليون دولار من بريطانيا وقليل من الخرائط البريطانية الأولية المرسومة قبل زرع الألغام, وكأنها خرائط نوايا, ولم تجد نفعا.
 
وفي السنوات الأولى من الألفية الحالية, ونقلا عن موقع الهيئة الوطنية للإعلام, تمكنت القوات المسلحة من نزع أكثر من مليون لغم لتمهيد العلمين للتنمية.
 
أسست الحكومة المركز الوطني لمكافحة الألغام, وأبرمت اتفاقيات مع الأمم المتحدة ودول عدة, واعتبارًا من عام 2009 وحتى 2020, جرى تطهير 2182 كم مربع من أصل 5100 كم من أراضي الألغام. ما مهد الطريق للتحول الجديد للعلمين ووضعها اليائس كمدينة ملغمة, إلى باكورة الجيل الرابع من المدن الجديدة في مصر، والمعتمدة على الطاقة المتجددة. شرح تقرير أخير لمركز دعم واتخاذ القرار بمجلس الوزراء (فبراير 2023) باستفاضة جهود مصر في سبيل إزالة الألغام, والتي بذلتها وزارة التعاون الدولي والقوات المسلحة, مما ساهم في تطهير الأراضي بمدينة الضبعة، من أجل إنشاء أول محطة للطاقة النووية في مصر، كما جرى تطهير مشروع امتداد ترعة الحمام بالساحل الشمالي لاستصلاح واستزراع الأراضي، وتدشين مشروع تنمية الساحل الشمالي الغربي من العلمين إلى السلوم لمسافة نحو 500 كم.
 
والآن العلمين هي ما نراها الآن, مدينة عصرية جاذبة, يمكن أن تساهم في المزيد من الموارد للحكومة والقطاع الخاص.
 
وكانت العلمين لفترة قريبة مزارًا لأحفاد القتلى في الحرب من دول الحلفاء والمحور, حيث يحتفلون في يوم 22 من أكتوبر من كل عام, بزيارة المقبرة الألمانية, الإيطالية, ومقابر دول الكومنول.
 
المقال / محمد الشاذلي 
الأهرام
التعليقات