يا صبر «أيوب»

لم يشتهر نبي من أنبياء الله لدى المصريين مثلما اشتهر نبي الله "أيوب"، والسر في ذلك ما تحمله تجربته في الحياة من رمزية على الصبر. ومن المعلوم أن للصبر مكانة خاصة في حياة المصريين. وقد كان "أيوب" نموذجاً في الصبر على الابتلاء، والرضاء بأقدار الله: "إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب".
 
ليس أشد قسوة على الإنسان من أن تقلب له الدنيا وجهها وتعطيه ظهرها في كبره. قديماً قال المصريون "الكبر عبر"، لأن الإنسان الطاعن في السن يكون في أشد حالات الوهن والضعف والعجز عن المقاومة، فما بالك إذا كان هذا الإنسان قد عاش خلال ما مضى من عمره حياة ناعمة هانئة.
 
كذلك كانت حال نبي الله "أيوب"، عليه السلام، فقد عاش 70 سنة كاملة ينعم بالثروة الكبيرة، والصحة، والولد، والتفاف أهله من حوله، ثم تبدلت أحواله فجأة، ففقد ماله وضياعه وأملاكه، وتسلل المرض إلى جسده رويداً رويداً، حتى أصاب كل أعضائه، ولم يبق سليماً منها سوى قلبه المؤمن بالله، ولسانه الذاكر له. تخلى عنه الأهل والولد، ونبذه الجميع، وبعد أن تفاقم مرضه خاف من حوله من العدوى، فألقوا به خارج البلدة.
 
مأساة مكتملة الأركان عاشها "أيوب" فقد فيها كل شىء، ولم يبق إلى جواره سوى زوجته المخلصة، واسمها -في الأغلب- "رحمة"، وكانت اسماً على مسمى.
 
أصرت الزوجة على رعاية زوجها طيلة فترة مرضه، وبقيت معه حين تخلى عنه الآخرون، بما فيهم أولاده وأهله، وظلت على حبها له بعد أن فقد كل ثروته، وباتت هي المسئولة عن إطعامه، نزلت إلى الحياة وأخذت تخدم في البيوت، وتأتيه بقوت يومه، وتطبب جراحات نفسه وجسده.نسي أهل البلدة، التي عاش "أيوب" عمره، أياديه البيضاء عليهم، فلم يكتفوا بطرده خارجها، بل بدأت أغلب الأسر بها ترفض الاستعانة بخدمات زوجته، خوفاً من العدوى، فما كان منها إلا أن باعت ضفيرتيها، حتى تأتي له بالطعام.
 
كثرت الهموم والأوجاع على قلب وجسد "أيوب" وهو صابر محتسب، راض بأقدار الله، حتى أتت لحظة اهتز فيها كل كيانه.كان لأيوب أخوان، وقد حدث أن جاءا لزيارته وهو يرقد فوق التراب خارج البلدة، وقف الشقيقان بعيداً عنه خوفاً من العدوى، وفجأة قال أحدهما للآخر: لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا".
 
ارتج أيوب وهو يسمع هذا القول وهو الذي ظل صامداً أمام أكبر المحن، شعر بألم مريع مرعب، حين داخله إحساس بأن ما أصابه يمكن أن يكون غضباً من الله عليه وليس ابتلاءاً.
 
هنالك مد يديه الواهنتين إلى السماء وقال: "اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعانا وأنا أعلم مكان جائع فصدقني" فأتى صوت من السماء -كما يحكي "ابن كثير" يصدق على ما قال أيوب، والشقيقان يسمعان، ثم مد يديه ثانية وقال: "اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني" فصدق من السماء وهما يسمعان.بعدها دعا "ايوب" ربه: "وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين".
 
المقال/ د. محمود خليل
الوطن
التعليقات