مقابر الخالدين

لا يمكن لأحد أن يتصور أن الدولة المصرية؛ ممثلة في الحكومة ومحافظة القاهرة تخطط لإزالة مقابر أثرية وتاريخية.. ولكن الحكومة مسئولة أمام مهامها بضرورة التطوير، وأمام الرأي العام بضرورة التنوير.. وقد كنت أحسب أن معركة حديقة أنطونيادس وحديقة الميرلاند والحديقة الدولية بمدينة نصر وحديقة الحيوان، وما رشح أو ما تركته من أدوات للتعاطي مع الرأي العام، سوف تشكل هذه الأدوات مرشدًا أمينًا في الحوار الدائر حول المقابر؛ مما يعني إدارة حوار مجتمعي، على الأقل في وسط أساتذة العمران وخبراء الآثار، الذين كان بوسعهم التوصل إلى مدونة سلوك تسير عليها الحكومة وهي تخطط وتنفذ عملية تطوير واسعة للقاهرة الفاطمية، بما فيها منطقة المقابر. 
 
وقصة القرافة أو المقابر القديمة التي اخترقها شارع صلاح سالم في بداية الستينيات من القرن الماضي، وتم الطلب من الأهالي نقل رفات ذويهم من الراحلين، تكررت في جزء من طريق الأوتوستراد في الثمانينيات، ثم نأتي لمواجهة الزمن الحاضر.
 
وربما صارت المسألة قضية رأي عام، بسبب انتشار وسائطه، أو بسبب أن اقتراب التطوير وحجمه هذه المرة، لمس أو احتك بمزارات ومقامات ومقابر مشاهير ممن أثروا وجداننا في شتى المجالات من القدامى والمحدثين، ومن الذين امتدت شهرتهم للجيل الحالي، ومن الذين كانوا في عداد المشاهير ولا يعرفهم كثير منا الآن. 
 
وحاولت تجميع بعض الأسماء لأصطدم باسم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والذي تلقت أسرته إخطارًا بالهدم وضرورة نقل الرفات، ثم نفت المحافظة أن يكون ذلك صحيحًا.. وكذلك اسم الراحل الأديب يحيى حقي، وقرأت تصريحًا لابنته؛ بأنها سارعت بنقل الرفات إلى مقابر مدينة العاشر من رمضان. ونفس الأمر مع أسرة شاعر النيل حافظ ابراهيم.. كذلك قرأت عن الإمام ورش الذي نسمع اسمه دائما في قراءات القرآن الكريم، ورش عن عاصم. 
 
إن تطوير هذه المنطقة كان حلما، لأن المصريين لم يتركوها يوما تنعم بالهدوء وإنما سكنوا بداخلها، وكان ذلك بسبب أزمة السكن في القاهرة طوال عقود، وربما بدأت الظاهرة في السبعينات واستمرت إلى وقت قريب. سكن في المقابر نحو خمسة ملايين نسمة، وقام البعض بالسطو على أراضٍ فضاء بجوارها وشيدوا منازل.
 
ودائمًا فإن الحكومة إذا خططت يمكن الحصول على "نظام" حين تتقاعس وتترك الأمر للأهالي فإننا سنحصل على "مصيبة"، وغالبًا ما تخلص تحقيقات صحفية وتقارير إعلامية إلى ضرورة إيجاد حل لهذه الظاهرة. 
 
وتسبب عدم مشاركة الحكومة للرأي العام في عملية التطوير والتحديث، غياب أو تغييب المعلومات، أزمة عدم ثقة، فالأنباء الأولى تحدثت عن إزالة نحو 2700 مقبرة، هذا تصريح قرأته في صحيفة محلية، ولكن من دون قاعدة بيانات عن نوعية المقابر وتاريخها واسم ساكنها، وإمكان الحفاظ على البعض منها؛ لأنه حتمًا في هذه المقابر، وقد مررت في جنباتها، كثير من المفاجآت الحضارية؛ كأن تقرأ على الشواهد أسماء تعيدك إلى ذاكرة أحداث وأدوار وربما بطولات لأصحابها، نسيناهم فيما ننسى..
 
إن التطوير والتحديث مع الحفاظ على مقامات ومدافن مشاهير من القدامى والمحدثين، يظل أمرًا ممكنًا، فضلا عن ضرورته لذاكرة المكان؛ لأن التطوير في تصوري هو لخدمة انتقال الناس في القاهرة، وتحويل المنطقة إلى شكل حضاري جديد، هذا التحويل يمكن أن يجذب، في حال الحفاظ على معالمه القديمة، الأجيال الحالية لزيارة المكان، مما يجعله يحقق مبادئ التنمية المستدامة.. 
 
وإذا كانت الحكومة قد نفت اتهامات الرأي العام وناشطي وسائل التواصل الاجتماعي بأنها تنفذ حملة شاملة لهدم مقابر أثرية، فإن الحكومة لم تفصح عن نوعية المقابر التي ستزال، وعدم إفصاح الحكومة عن أبعاد مخطط التطوير، جعل الرأي العام منزعجًا من الاستيقاظ على خبر قد يكون صحيحًا حول إزالة مقبرة لأحد المشاهير، ولا تنفك الحكومة ترد بأنها لن تزيل أي مبنى أثري، وأن مخطط التطوير يأتي ضمن مشروع القاهرة التاريخية والحفاظ على تراثها.. 
 
وأقترح على محافظة القاهرة تشييد مقبرة للخالدين، في حيز منقطة المقابر الخاضعة للتطوير حاليًا؛ بحيث يتم التفكيك العلمي والأثري للمقابر المراد أو التي يحدث إجماع على الحفاظ عليها، ويمكن إضافة كل المعلومات على الشاهد، عن تاريخ الوفاة، ومكان الدفن الأول، وتاريخ نقل الرفات إلى مقبرة الخالدين، وفي زمن الحوار الوطني يجب ألا تستنكف الحكومة الدخول في حوارات والاستعانة بمزيد من المختصين في أي أمر تقدم عليه في الشارع، لأن الأعين راصدة لما يجري، ولأصحابها الحق في النقاش العام، والرضا عن أعمال هندسية مهمة تقوم بها الحكومة بعزم ونية صادقة. 
 
إن تحديث وتطوير منطقة المقابر ضروري شريطة أن يراعي منفذوه عمليًا الحفاظ على منطقة المقابر كجزء من ذاكرة القاهرة ومن تاريخها الممتد، وسمعت أخيرًا عن حركة نشطة من بعض هواة التصوير للحاق بآخر ما يمكن أن تحفظه الذاكرة من تراث منطقة المقابر، وهذه الحركة لا يجب النظر إليها باعتبارها معطلة للتطوير، إنما داعمة له، كما أن الحكومة يجب عليها بدورها توثيق الخطوات التي تقوم بها بالمعلومات والصور، وأغلب الظن أنها تفعل.
 
المقال / محمد الشاذلي
الأهرام
 
التعليقات