سمعت آخر نكتة

الضحك عند المصرى انتصار على العدم كما قال صلاح جاهين:

«الضحك قال يا سم ع التكشير

أمشير وطوبة وأنا ربيعى بشير

مطرح ما باظهر بانتصر ع العدم

إنشالله أكون رسماية بالطباشير

وعجبى»

انتصار على هزائم تاريخية كثيرة، استطاع الفلاح المصرى بالنكتة أن يقاوم كل ما مرَّ عليه من هكسوس ومماليك وعثمانيين وإنجليز وفرنسيين.. إلخ، الرسوم الكاريكاتيرية كانت على جدران معابد مصر القديمة، وكأنها ولدت مع المصرى القديم، خفة دم المصرى ليس لها سقف أو سور، لكنها دوماً ضحكة مغموسة فى شجن، ابتسامة متوجسة لدرجة أنه عندما نغرق فى الضحك، نفيق بعدها قائلين «اللهم اجعله خير»، وكأننا نخاف أن يكون الضحك ثغرة لقدر مخبوء، أو نذير خطر متربص، لكننا بالرغم من ذلك التوجس نضحك، ونقاوم بالنكتة والكاريكاتير، قبل الـ «استاند أب كوميدى» فى أوروبا وأمريكا.

اخترعنا نحن المصريين منذ قديم الأزل المونولوج الذى تطور على يد إسماعيل يس وثريا حلمى وشكوكو الذى صُنعت له التماثيل، وأعتقد أننا الدولة الوحيدة التى صنعت تمثالاً لمونولوجيست كان يقدم فقرة أراجوز عبقرية فيها كل بذور المسرح الشعبى، اخترعنا نمطاً جديداً من الكوميديا فى منتهى خفة الدم، يعتمد على سرعة البديهة وهو القافية، مثلما كان فى سوق عكاظ وغيره تبادل الشعر، كان عندنا على المقاهى القافية التى دائماً فى ذيلها كلمة اشمعنى، وسيندهش القارئ عندما يعرف أن أشهر مَن كان يدخل قافية فى مقاهى الحسين ويكسب الجميع، رجل اسمه نجيب محفوظ، وهو ويا للمصادفة هو نفسه صاحب نوبل وأعظم روائى عربى وأخف دم وأجمل ضحكة مجلجلة من الممكن أن تسمعها.

خفة الدم المصرية معجونة فى الجينات، حتى ولو كانت جينات ممثل مثل يوسف وهبى اشتهر بشر راسبوتين ورعب سفير جهنم، لكن هذا المصرى الفيومى الأرستقراطى عندما حانت له فرصة فيلم كوميدى مثل «إشاعة حب»، منحنا أجمل كوميديا، وكانت خفة دمه تتفوق على أساطين الكوميديا.

المصرى خفة دمه حراقة، عليها شطة وبهارات، وفيها رائحة طمى النيل، وحكمة أخناتون، وصراحة الفلاح الفصيح ووجعه، يسخر حتى من نفسه، ومن الموت، النكتة عنده فلسفة وليست مجرد مقاومة، هى ليست مخدراً بل منبه، وغياب النكتة كان فى بعض فترات التاريخ جرس إنذار، ويُحكى أن الرئيس جمال عبدالناصر انزعج عندما رفعت إليه التقارير بأن سوق النكت المصرية قد أصابه البوار والجفاف، وأعتقد وبدون أى نوع من الشوفينية أنه لا يوجد فى العالم من كتب عمود «نص كلمة» بهذا الاختزال والذكاء والتركيز وخفة الدم مثلما كتبه أحمد رجب، عشرات السنوات وهو يومياً يطلق هذه الرصاصة الكوميدية فى صدر الأحزان والهموم، وأيضاً الكوكتيل العبقرى الذى صنعه مع توأمه رسام الكاريكاتير مصطفى حسين، وأتحدى وبكل ثقة أن تكون هناك مدرسة كاريكاتير فى الشرق الأوسط بقوة وجسارة وخفة دم وكثافة وغزارة وتنوع مدرسة «روزاليوسف وصباح الخير»، وأعتقد أنه لا يوجد أوروبى وأمريكى يقابل جاره أو زميله فى العمل وبعد أن يلقى عليه السلام يسأله مباشرة وكأنه نشيد قومى مفروض «سمعت آخر نكتة»، إنها عبارة المصرى الخالدة التى صكها فى مصنع أحلامه وصهرها فى فرن خبراته التى تراكمت عبر أطول تاريخ على هذا الكوكب.

شعب يتداول النكتة كرغيف العيش، النكتة عنده نسمة فى هجير الصيف، وترياق لخدوش على جدار الروح، خفة الدم عنده فلسفة وليست مجرد هزار، مقاومة وليست طق حنك، نافذة إطلالة على عوالم أخرى مليئة بالحق والخير والجمال، كرات دمه الحمراء والبيضاء تحمل مع الأوكسيجين روح السخرية، ولأن السخرية فن عقلى، فسخرية المصرى دائماً لماحة وعبقرية ومتفردة.

المقال / خالد منتصر 

الوطن

التعليقات