رمضان والبهجة وعقيدة الترشيد

كل رمضان يأتي مختلفاً عن رمضان الذي قبله. إنها سنة الحياة. صحيح أن الامتناع عن الأكل والشرب واحد، ويفترض أن تكون العبادات والروحانيات على الأقل متشابهة، لكن بات واضحاً مما لا يدع مجالاً للشك أن كل رمضان يختلف عما قبله.كل منا كبر عاماً.
 
وكل منا مر بالكثير على مدار عام سبق جعل منه إنساناً مختلفاً. رحل عنا أحباب، وقدم أحباب جدد.
 
اكتسبنا خبرات وتعلمناً دروساً وجرت مياه كثيرة تحت الجسر، كما يقولون.هذه المرة، لم تكتف المياه بالجريان، بل اندفعت وفاضت وهددت بالإغراق.
 
الأزمة العالمية الاقتصادية، وفي القلب منها تقلبات السياسة العنيفة، لم تترك بلداً إلا وضربته بدرجات متفاوتة.
 
الضربة التي لحقت بالدول المتقدمة وذات مستوى الدخول المرتفعة تختلف في حدتها عن تلك التي لحقت بالدول النامية وذات الدخول المتوسطة أو النامية. هذا طبيعي، لأن الضربة تصيب الأضعف بشكل أكبر.
 
والضعيف لن يقوى إلا بالعمل والتعليم الحقيقي والفكر المنضبط والقانون الصارم وتغيير عقيدة العمل من "السبوبة" إلى ترجمة فعلية لما نتفوه به ولا نعيه أو نطبقه ألا وهو "العمل عبادة".
 
عامان من الوباء وإغلاقاته وأضراره الاقتصادية على الكوكب كله، ثم عام من حرب روسيا في أوكرانيا وتداعياتها التي تأبى إلا أن تحكم قبضتها على رقاب الجميع.
 
نقص جميع المدخلات الرئيسية لعمليات الإنتاج، تقلص وتوقف الكثير من الصناعات الحيوية في العديد من الدول بسبب نقص الإمدادات، وزيادة الأسعار زيادة دفعت الفقراء أسفل الخط الفقر بكثير، وأجبرت القابعين في منتصف الهرم الاقتصادي والاجتماعي على النزول بضع درجات، في حين تختلف أوضاع سكان قمة الهرم كل بحسب استعداداته ومصادر ثرواتهم، والتي تبقى عادة في علم الله وأصحابها.
 
وعلى مدار الأشهر القليلة السابقة لرمضان هذا العام، أخذت معدلات التضخم في دول العالم في الارتفاع، وأسعار السلع الغذائية وغير الغذائية في الاشتعال.
 
والمسألة ليست مجرد نقص إمدادات القمح من كل من روسيا وأوكرانيا وبالتالي الأخطار المحدقة بالخبز، كما يعتقد البعض، بل الأزمة أكبر وأوسع بكثير، لا سيما وأن آفاق الحرب ضبابية ولا مجال لتوقع توقيت انتهائها، وحتى في حال انتهاء العمليات العسكرية، فإن التقلبات الرهيبة الحادثة في موازين القوة في العالم كفيلة بعدم إعادة الأمور إلى طبيعتها لأشهر، إن لم يكن سنوات.
 
وكأن كل ما سبق لم يكن كافياً، فإذ بانهيار ثلاثة بنوك أميركية، هي "سيليكون فالي" و"سجناتشير" و"سيلفر جيت"، فيما يعتبر أكبر إفلاس مصرفي منذ الأزمة الاقتصادية عام 2008.ما علاقة كل ما سبق برمضان وتغيرات رمضان؟ إنها علاقة وثيقة.
 
فنحن لا نعيش في كوكب منفصل، ودول هذا الكوكب متصلة ببعضها البعض رغماً عنها. وعلى الرغم من مرارة الأزمة الاقتصادية التي نتجرعها منذ أشهر، إلا أن الناس في رمضان عادة تصبو إلى مظاهر استهلاكية صاخبة، سواء في نوعية أو كمية السلع الغذائية (رغم إنه شهر الصوم)، أو من حيث مظاهر الاحتفال.
 
والحقيقة، وعلى الرغم من مرارة الأزمة، إلا أنه لا يمكن إنكار التطور بالغ الإيجابية والذكاء الذي طرأ علينا جميعاً على مدار الأشهر الماضية، وتحديداً منذ احتدت واحتدمت الأزمة.
 
نشتري ما نحتاجه فقط (أعلم أن السبب الرئيسي هو إننا لم نعد قادرين على شراء ما اعتدنا علينا وربما كنا نرمي نصفه في القمامة)، ومحتويات القمامة باتت متحضرة حيث تلال الطعام الزائد لم تعد موجودة، واكتسب أغلبنا مهارات التدبر والتفكر والاختيار والترشيد.وقبل أن يهجم الهجامون ويقفز القفازون، فهذه السطور ليست غزلاً في الأزمة الاقتصادية، أو مباركة دون محاسبة لكل قرار اقتصادي حكومي أو أولوية إنفاق لا تلقى قبلواً أو ترحيباً أو شرحاً كافياً لإقناع الناس بها قبل البدء فيها.
 
هذه السطور شرح لبعض العوامل التي تجعل رمضان هذا العام مختلفاً. كما إنها دعوة لاستغلال أجواء الهدوء والروحانية لهذا الشهر الكريم لنعي أن الأزمة ليست حكراً علينا، وأن الحكومة – أي حكومة – عاجزة عن أن تضرب الأرض تطلع بطيخ، وأن تعديل سلوك الإنفاق بات حتمياً ويجب أن يستمر إلى ما بعد زوال الأزمة، وأن حالنا لن ينصلح إلا بتقليل ضخ العيال وتحويل دفة الاهتمام من الكم إلى الكيف.
 
تعليم أفضل في المدرسة وليس "السنتر" رغم أنف "جروبات الماميز" المقاومة لأي تعديل حقيقي والساعية للإبقاء على الحفظ والصم والنمرة النهائية وتخفيف المناهج وتجذير وترسيخ الدروس الخصوصية.
 
عقيدة عمل تقدس العمل وتعشق الإنتاج وتنبذ الأعمال غير ذات الجدوى، وهذه العقيدة من شأنها أن تقضي على مهانة وقلة قيمة من يحترفون التسول في الشهر الكريم.
 
وأخيراً وليس آخراً، قدر أكبر من التواصل والاتصال بين الحكومة والمواطنين لا للإخبار فقط، ولكن للإشراك في القرار وشرح أسبابه ومناقشة تبعاته. رمضان كريم.
 
المقال/ أمينة خيري
الوطن
التعليقات