أفاتار وصندوق النقد

أتابع إيرادات الفيلم الأمريكي "أفاتار 2".. إنها تكاد تقترب من رقم قرض صندوق النقد الدولي 3 مليارات دولار، والذي اشترط روشتة علاج باهظة للموافقة عليه.. بينما أتابع أحاديث وحكايات "أفاتار2" الذي شاهده أولادي وتحدثوا عن المتعة التي حصلوا عليها خلال الفرجة.. إلى هذا الحد كان يمكن لإيراد فيلم واحد أن يحل أزمة كبيرة في مصر، لكن الأمر جد مختلف!!
 
فإذا كان "أفاتار2" تجاوزت إيرادته ملياري دولار في العالم، في شهر واحد، فإن لا أحد خارج الولايات المتحدة يستطيع تكلفة فيلم واحد 400 مليون دولار!!
 
هي المقارنة المستحيلة التي روادتني، ولكني على ثقة من أن رد الاعبتار لصناعة السينما، يمكن أن يكون أحد وسائل الإنتاج المراد دفعها وإنقاذها والاستفادة من عوائدها.. السينما أحد أهم أوعية الهوية الثقافية المصرية، وقوتها الناعمة في الداخل والخارج، وكانت القاهرة هوليوود الشرق، تكاد تقارب صناعة السينما فيها أو تتنافس مع القطن المحصول الإستراتيجي الأول، ويؤكد سينمائيون أن السينما في الأربعينيات كانت ثاني مصدر للدخل القومي بعد القطن.
 
والمفارقة أن الحلم الذي يخايل كثيرين بنهضة السينما يصطدم بحقائق، تشكل في مجموعها أزمة السينما المصرية، والتي تتطلب تدخل الدولة في حلها، وأن تجد مكانًا في الحوار الوطني الجاري حاليًا، وأن تجد دعوات دعم الدولة للأفلام قبولاً!!
 
ولا يمكن إغفال حقيقة أن لجنة مشكلة في شهر سبتمبر الماضي، من قبل نقابة المهن السينمائية، لم تجد فيلمًا مصريًا واحدًا يمكن أن يشارك في جوائز الأوسكار الأمريكية للأفلام الاجنبية، بينما شاركت الجزائر وفلسطين والمغرب وغيرها، وكان السبب البارز هو الفشل في توزيع خارجي لفيلم واحد على الأقل.. ومن شروط ترشيح أي فيلم في الأوسكار هو أن يكون قد عرض في أمريكا في وقت عرضه في مصر، وهو ما لم يحدث منذ حوالي عشرين عامًا؛ عندما عُرض فيلم المخرج محمد كامل القليوبي "خريف آدم" عن رواية "ابن موت" لمحمد البساطي وبطولة هشام عبدالحميد!!
 
تحاول السينما المصرية الاستمرار في الإنتاج، وتقدم أفلامًا كوميدية في الغالب، ثم أفلام الحركة، ويوجد صالات عرض جديدة، ونصل بأفلامنا إلى 24 فيلمًا في السنة، وإيرادات سنوية تصل إلى نحو نصف مليار جنيه، لكن ما هو مهدر أكثر مما هو متحقق!!
 
 فالأفلام لا توزع خارجيا إلا في نطاق محدود، وذلك بسبب مستوى إنتاجها وموضوعاتها،وفي دور العرض في الدول العربية تحاول أن تجد لها مكانًا، كان يمكن أن تكبر مساحته لو أن الأفلام قدمت محتوىً أكثر تنوعًا، وليس فقط الكوميديا والأكشن.
 
وقد وزعت السينما المصرية في الأربعينيات والخمسينات أفلامًا، طبقًا لخريطة دقيقة عرفها خبراء الإنتاج والتوزيع وصناع السينما، كانت بلاد المهجر هدفًا فكانت أفلام الاستعراضات التي يشارك فيها ممثلون من لبنان، باعتبار استثمار الحنين إلى الشرق من رقص وغناء!!
 
في الخمسينيات استثمر المنتجون في تقديم الفكر الوطني والديني، وحدث اندفاع هائل نحو إنتاج أفلام مثل "رد قلبي" و"جميلة بوحيرد" و"الله معنا".. و"ظهور الإسلام" و"انتصار الإسلام" و"بلال مؤذن الرسول"، والتي جلبت إيرادات في البلاد العربية وتركيا وإيران.. وفي بلدان شرق آسيا؛ حيث تعلق المشاهدون بأفلامنا وانتظروها في الستينيات.
 
وتحدث صحفي هندي معي عن تذكره لمصر بفيلم معين، ورد صحفي تركي على انزعاجي من المسلسلات التركية المدبلجة التي اغرقت الشاشات العربية، وقال إنه في طفولته شاهد الكثير من الأفلام المصرية المدبلجة للغة التركية.. وحدثني صديقي الناقد السينمائي الكبير محمود قاسم عن قيام فريد شوقي ببطولة 15 فيلمًا تركيًا بسبب مكانته في الشاشة العربية؛ لدرجة إقامته في شقة فاخرة في اسطنبول، وعمل معه فنانون أتراك ومصريون وعرب، وذكرني قاسم بأفلام مثل "عثمان الجبار"، و"شيطان البوسفور"!!
 
وفي سنوات الستينيات، وبسبب من دعم الدولة خرجت أفلام تدعم سياسة وتوجهات الدولة من النهوض الاجتماعي والفكري والقومي.
 
ودعم صناعة السينما يمكن أن يزيد من مساحة استحواذ الفيلم المصري ـ في الهدف القريب ـ على نسبة كبيرة من شباك التذاكر في الدول العربية، خصوصًا أن هناك زيادة مطردة في دور العرض؛ وعلى سبيل المثال، فإن السعودية بات لديها في سنوات معدودة 63 مجمعًا للعرض السينمائي تضم 581 شاشة، وتخطط لزيادتها إلى 2500 شاشة بحلول عام 2030..
 
ووفقًا لإحصائيات سعودية منشورة، فإن الفيلم المصري استحوذ على 30% من إيرادات السينما في السعودية عام 2022، التي بلغت نحو 905 ملايين ريال سعودي (240 مليون دولار أمريكي)، ومثلت هذه الأفلام 6.5% فقط من الأفلام المعروضة، وبالتالي فإن مزيدًا من هذه الأفلام يمكن أن يستثمر الانفتاح الثقافي والفني في السعودية، وباعتبار السعودية ثاني أغلى دولة من حيث أسعار التذاكر عالميًا بعد سويسرا.
 
نريد التفكير في عودة ما إلى الهيئة العامة للسينما، أو هيئة للأفلام، أو مجلس أعلى للسينما تابع لوزارة الثقافة، وبرئاسة مثقف كبير، يدعم صناعة الأفلام المهمة، ويقدم لها المال والحوافز والمساندة والجوائز.
 
مقال / محمد الشاذلي
الأهرام
 
التعليقات