الضاحك الباكى



صر من الفن الجميل، هذا هو النصف الأول من القرن الماضى، حيث انتعشت حركة التنوير المصرية فى جميع المجالات، بداية من السياسة إلى الأدب والفنون، من موسيقى سيد درويش إلى مسرح جورج أبيض ويوسف بك وهبى والكسار والريحانى، إلى بدايات فن السينما، وتلك الحركة النسوية لرائدات مصريات، وحراك حربى وسياسى ضد الاستعمار واندلاع ثورات شعبية غيّرت الدستور ونظام الحكم من 1919 حتى 1952، وفى تلك الحقبة الزمنية كان للفن عظيم الأثر فى تكوين الشخصية المصرية وإشعال الروح الوطنية وتغيير السلوك واللغة والاهتمام بالكلمة مع بدايات المسرح سواء المترجم أو المُعرَّب أو المسرح الكوميدى السياسى الغنائى، وهو ما أفرز نخبة منتقاة من ممثلين وملحنين وكُتاب وشعراء ومطربين ومطربات، وإن كان فن المسرح فنًّا وليدًا فى المجتمعات العربية، إلا أنه انتعش وكبر فى مصر المحروسة على أيدى الشوام وبعض الأجانب واليونانيين والمصريين، الذين درسوا بالخارج هذا الفن العظيم الذى أسّسه الإغريق..

وفى خضم دراما ربّات البيوت وهذا الكم من مسلسلات الأسرة والعيلة والجيران ومسلسلات المنصات الرقمية وما تقدمه من أعمال معظمها مترجم ومُعرَّب، يُدفع بتقاليد وقيم ومفاهيم مغايرة وصادمة للمجتمع حتى يتم تسريبها داخل نسيج الأسرة والشباب وحتى الأطفال. فى وسط كل هذا، نجد الكاتب، متعدد الإبداعات، محمد الغيطى- المتمكن من التاريخ والدراما واللغة، فهو الكاتب المسرحى، الشاعر، الصحفى، الإعلامى- قد اقتحم تاريخ السيرة الذاتية للفنان العبقرى نجيب الريحانى وقدم الدراما المتميزة «الضاحك الباكى»، مع المخرج، المبدع، الأستاذ محمد فاضل، الذى يحمل رسالة فنية وفكرية وثقافية فى جميع أعماله سواء للسينما أو للتليفزيون، بداية من «الراية البيضاء» مرورًا بـ«أم كلثوم» فى السينما وفيلم «ناصر 56» حتى ذلك العمل الجديد الذى يؤكد أن الدراما نص وإخراج.

وعلى الرغم من الهجوم الذى تعرض له العمل والكاتب والمخرج والفنانون، فإن المسلسل يجمع بين التاريخ الحديث لمصر والدراما الإنسانية والسيرة الذاتية فى ضفيرة سلسة تصل إلى المتلقى العادى والمتلقى البسيط، وأيضًا تلقى الضوء على العديد من الشخصيات والأحداث الفنية والسياسية التى شغلت الساحة الاجتماعية لمصر فى النصف الأول من القرن الماضى، سواء بدايات جورج أبيض وروزا اليوسف وعزيز عيد واستيفان روستى وسيد درويش والكسار وبديعة مصابنى حتى ظهور جيل جديد من الفنانين والأدباء أمثال بديع خيرى وإسماعيل يس وغيرهم، وكيف أن دور الفنان لا يقف عند حدود المتعة الفنية والبصرية والسمعية، حتى المسارح كانت تشمل فنون الغناء والاستعراض والتمثيل لتمتد إلى مزج السياسة والهوية والثقافة فى بساطة لتصل الرسالة إلى الجمهور دون ابتذال وتدنٍّ، وأيضًا دون تعالٍ وتقعر.

المسلسل بدأ يطرح خلفية إنسانية عن حياة نجيب وأصوله وأسرته وتعليمه وأصدقائه وكفاحه وإصراره على النجاح والتميز، ونجح المخرج محمد فاضل فى اختيار فريق العمل، بداية من الفنانة القديرة فردوس عبدالحميد فى دور الأم، وكذلك الفنان عمرو عبدالجليل فى دور نجيب الريحانى، وإن كانت المراحل الأولى من الشخصية غير ناضجة ومتكاملة بصورة درامية وأداء عادى لا يعبر عن وهج وتفرد الشخصية، والذى يتبلور فى التطور مع ظهور نجيب الريحانى كشخصية محورية على المسرح فى كشكش بيك. وهنا يبدأ الخط الرئيسى للعمل الدرامى، وتتوالى الأحداث متصاعدة، فى دراما تجمع الإنسانى بالتاريخى، الاجتماعى بالكوميدى، فى ضفيرة إبداعية تعود بنا إلى الزمن الجميل للفن.

وكان محمد سليمان مبدعًا فى شخصية استيفان روستى، وكذلك رامى الطمبارى فى شخصية عزيز عيد، وروزان فى شخصية بديعة.. ومصطفى شوقى فى شخصية سيد درويش.. وياسر الطوبجى فى شخصية بديع خيرى. أشعار الغيطى وكلمات المقدمة وغناء ياسمين على وألحان إسلام صبرى، كلها عناصر مؤثرة، وديكور وملابس سامية عبدالعزيز تتوافق مع المرحلة الزمنية والحياة فى تلك الحقبة، وتغَلّب المخرج بحرفية على ضعف الإمكانات الإنتاجية لأن النص والأداء كوّنا قوة فى التكوين المتميز لذلك العمل الدرامى ورسالة الفن الحقيقية.

«إن كنت بدّك تخدم مصر أم الدنيا وتتقدم..

لا تقول نصرانى ولا مسلم ولا يهودى يا شيخ اتعلم

اللى الأوطان تجمعهم عمر الأديان ما تفرّقهم».

التعليقات