أعذار العُمر

كانت تحتاج صاحبتنا أن تتحلّى ببرود أعصاب ينزل تحت الصفر بدرجة أو درجتين كي تُحدِث بعض التوازن مع قابلية عمها فلان للاشتعال دائمًا بسبب كل شيء وأي شيء. وعمها فلان هذا هو كبير العائلة، ولأن علاقته مع أقرانها من نفس جيلها هي علاقة معقدة ويصعب تحديدها، وتدخل في تعريفها صفات مثل ابن أخ بنت عم زوج خالة الأب، فلقد استمعَت صاحبتنا لشرحٍ واف لهذه العلاقة ولموقعها من شجرة العائلة الوارفة ما لا يقل عن عشر مرات، لكن هذا التعقيد الشديد كان كافيًا لأن تطير من رأسها حلقة أو حتى ينكسر فرع، من تلك الحلقات والفروع الكثيرة التي تبدأ من عند عمها وتنتهي عندها، وفي آخر المطاف استسلمَت بينها وبين نفسها لحقيقة أنه كبير العائلة وخلاص. رجل ثمانيني العُمر كل ما فيه لطيف، شعره الأبيض الناصع الذي لا انحسر عن رأسه ولا هو صبغه أبدًا.. لطيف، فكّه الخالي من الأسنان يدغدغ به المكسّرات المحظورة عليه في بطء وحنكة.. كِ لطيف، إصراره على ملابس أيام زمان: البابيون والصديري ومنديل الجيب أكثر من لطيف. لا يعيبه شيء إلا أنه حاد الطبع.. لسانه كالسيف في نقد ما لا يعجبه، وهذا الذي لا يعجبه كثير. يعتبر العم فلان أن تقدمه في السن يعطيه الحق في أن يقسو على القُرب قبل الغُرب لإصلاح الحال المائل حسبما يراه هو، وينسى أنه كما كبر فإن أبناء العائلة أيضًا كبروا، وأن هؤلاء الذين يوجههم ويلفت نظرهم بحدة إلى الصح والغلط بعضهم بلغ الستين من عمره وربما حتى تجاوز ذلك الحدّ بقليل، لكن هذا لا يمنع أبدًا من إحراجهم وجَعلهم أمثولة أمام الأبناء والأحفاد من وقت لآخر. إن نحن وصفنا ذلك السلوك للعم فلان بالديكتاتورية فقد يرى البعض في وصفنا هذا نوعًا من التجني عليه، فالديكتاتورية صفة لا تحتاج في ممارستها إلى رخصة أو تصريح، والديكتاتور هو شخص يؤمن باحتكاره الصوابية المطلقة ويتصرّف مع الآخرين على أساس أنه الذي يعلم وهم لا يعلمون، أما في حالة العم فلان فإن الوضع بالنسبة له ليس كذلك بالضبط، فهو في كل موقف يقابله ويكون فيه مع مَن يختلف معه في الرأي فإنه يحتاج إلى أن يشهر رخصته في وجه الطرف الآخر، ورخصته هذه ليست سوى عمره المديد، لذلك فإنه لا يتوّرع عن التذكير بأن أحدًا لا ينبغي أن يجادله أو يزعل منه إن هو ثار أو انفعل لأنه كبير، وهذا يعني بمفهوم المخالفة أنه لو كان أصغر سنًا بعض الشيء أو أنه كان يجلس في وسط مجموعة مثله من مواليد أربعينيات القرن الماضي، لصارت إذن مناقشته ممكنة والأخذ والرد معه مقبول.
• • •
ما يفعله العم فلان ليس شيئًا جديدًا، إنه جزء من ظاهرة عامة يتم فيها توظيف العمر لإخضاع الآخرين أو الابتزاز العاطفي لمشاعرهم. في الواقع ربما وجدنا أن ألفاظًا مثل الإخضاع والابتزاز تسيء لطبيعة العلاقات الإنسانية في إطار العائلة الممتدة أو داخل جماعات الرفاق أو وسط محيط العمل، لكن في النهاية فإن العبرة بالنتيجة، والنتيجة تقول إنه في حالات معينة عندما يتم إشهار رخصة السن فإن هذا لا يترك بديلًا أمام الطرف الآخر غير الاستسلام. يُشهر الأطفال سلاح طفولتهم في وجوه الكبار فيلجئونهم إلى تغليب العاطفة على العقل ويضطرونهم لإتاحة الممنوع المرغوب. لا يوجد عاقل في الدنيا لا يعرف تأثير إدمان الشاشات على الجهاز العصبي للطفل، ومع ذلك فإن عيون الأطفال مثبتة على كل أنواع الشاشات، وهذا لا تفسير له إلا بالعودة لتأثير رخصة الطفولة. وكما يكرّر العم فلان من وقت لآخر أنه لا حق لأحد أن يعارضه أو يزعل منه مهما احتّد لأنه كبير، فإن الأطفال يستخدمون المنطق نفسه وينبهون على الكبار بعدم الزعل منهم مهما تمردوا على نصائحهم لأنهم صغار. بطبيعة الحال فإن المثال الخاص بترك الأطفال تحت رحمة الشاشات بالذات قد تكون له تفسيرات أخرى منها انشغال الأهل عن أولادهم، لكنه لا يلغي تأثير الطفولة الضاغطة. هذه الرخصة الذهبية لا تنتهي صلاحيتها بانتهاء مرحلة الطفولة، لكنها تظل سارية المفعول لحين اجتياز مرحلتّي المراهقة والشباب فكلتا المرحلتين تلتمسان العذر لأصحابهما وترتّبان لهم معاملة خاصة تحسبًا لتقلبات المراهقة وخوفًا من طيش الشباب. يقول المثل المعروف "إن كبر ابنك خاويه"، ومؤاخاة الابن تفرض تقديم تنازلات، وهذه المروحة من التنازلات قد تكون واسعة، ماذا وإلا…. إن في صفحات الحوادث توجد قصص مفزعة عن انتحار شباب مثل الورد احتجاجًا على عدم الاستجابة لرغبات كثير منها أصلًا لا يستحق التعليق عليه، لكنه اندفاع الشباب الذي يستسهل المغامرة حتى وإن كان ثمنها الحياة نفسها، وهذه الفزّاعة ترعب الكبار.. ترعبهم جدًا وتردعهم حتى عن محاولة ترشيد تلك الرغبات.
• • •
وكأن ما سبق يعني أن الفترة العُمرية الوحيدة التي لا توفّر لصاحبها مبررات الأعذار، هي تلك الفترة التي تمتد بين العقدين الخامس والسادس، أما قبل ذلك وبعده فالأعذار كما رأينا متاح. يبدأ الواحد منّا سنته الواحدة والأربعين فيكتسب صفة "ناضج" حتى وإن لم يكن كذلك بالضرورة، وكأن تاريخ ميلاده يحكم عليه بالنضج. يتحوّل بقدرة قادر من شاب معذور فيما يفعل إلى إنسان كبير مسؤول، وهامش التسامح معه يضيق. تتفهّم صاحبتنا قسوة هذه النقلة الشعورية من حال إلى حال لا يفصل بينهما إلا عام واحد، تتفهّم تمامًا لأنها شخصيًا مرّت بهذا الانتقال عندما تجاوزت سن الأربعين. تمنّت حينها لو كان هناك تمهيد أو تهيئة أو حتى منطقة رمادية تفصل بين ما سبقها وما يليها لكنها لم تجد، بل وجدَت نفسها تلعب دورًا جديدًا يفرض عليها أن تستوعب دلال الصغير واندفاعه وأن تتقبّل نقد الكبير وقسوته. هنا أحست أنها مضغوطة بشدّة حتى تكاد تنسحق، وأنها مُطالبة بالجري مع كل الأمهات في ماراثون الحياة والتحلَي في الوقت نفسه بأقصى درجات التسامح وضبط النفس مع الأصغر والأكبر. فلو أنها سئلت عما تتمناه لردّت بأنها تتمنّى لو تغمض عينيها وتفتحهما لتجد نفسها في وسط المنطقة الآمنة التي يسكنها عمها فلان ومعه كل الأعمام، فهناااك لن يزعل منها أحد ولن يغضب منها أحد بحكم أنها.. صارت كبيرة.

"عن الشروق"

التعليقات