العراق على مفترق طرق «2/2»

مع تكرار الفشل فى تأمين نسبة الثلثين المطلوبة لانتخاب رئيس الجمهورية من جانب مجلس النواب العراقى يكون الصراع السياسى بين مقتدى الصدر وخصومه قد وصل إلى مرحلة التجمّد بعجز كل طرف عن إزاحة الطرف الآخر من المشهد السياسى، وبدا واضحًا للعيان أن كل طرف يستطيع عرقلة خيارات الطرف الآخر سواء الخاصة برئاسة الجمهورية أو الخاصة برئاسة الحكومة، لكنه لا يستطيع فرض خياراته بشأنهما داخل البرلمان. فعلى المستوى الشيعى يتمتع التيار الصدرى بـــ٧٥ مقعدًا برلمانيًا وتتمتع كل القوى الشيعية الأخرى بـ٨٤ مقعدًا، وبالتالى فإننا لو قارنّا بين حصتّى الطرفين سنجد أنه من الصحيح أن عدد مقاعد القوى الشيعية المنافسة للصدر يزيد على عدد مقاعد الصدر، إلا أننا فى الواقع نقارن بين الصدر المتمثّل فى تيار واحد وبين القوى الشيعية الموزّعة على عدة تيارات هي: حزب الدعوة والحكمة وائتلاف دولة القانون والفتح والنصر.. إلخ، وهذا البُعد من المهم أخذه فى الحسبان عند المقارنة. وعلى المستوى الوطنى فإن حلفاء الصدر من السنة والأكراد يزيد عدد مقاعدهم على عدد مقاعد هذين المكوّنين المنضمّين للفريق الآخر لكن دون بلوغ أغلبية الثلثين، وهذا يعطى منافسى الصدر مايسمّى الثلث المعطّل للقرارات التى تتطلب موافقة ثلثّى النواب. وفى محاولة خلخلة هذه المعادلة الرقمية لا يتورع كل طرف عن محاولة استمالة بعض عناصر الطرف الآخر وتهديدها أحيانًا، لكن دون اختراق كبير يُحدث تغييرًا حقيقيًا فى توازنات القوى القائمة بالفعل.

على ضوء ما تقدّم يصبح السؤال عن مآلات حالة الاستقطاب الحادة التى تعانيها الساحة العراقية، سؤالًا مشروعًا تمامًا. لقد انتقل السيد مقتدى الصدر من التمسك بطرح مرشحيّه لرئاسة الجمهورية والحكومة بعد تعذّر توفير النصاب فى جلسة الأربعاء ٣٠ مارس، إلى إمهال منافسيه مهلة زمنية تبدأ من الأول من شهر رمضان وتنتهى فى التاسع من شهر شوال لتشكيل حكومة لا يشارك فيها، وهذه المدة لا سند قانونيًا لها، إذ من المفترض أن يجرى انتخاب رئيس الجمهورية بعد شهر من فتح باب الترشّح وهو الشهر الذى انتهى يوم ٦ أبريل الحالى. والأهم أنه لم يتم تحديد ماهو السيناريو فى حال انتهاء المهلة الصدرية دون تشكيل الحكومة من جانب الطرف الآخر، وإن كان يمكن توقّع ملامح هذا السيناريو وهو سيناريو كارثى بكل المقاييس، لأنه ينطوى على احتمالات المواجهة المسلحة بين طرفين لا ينقصهما السلاح أبدًا ولا الخبرة القتالية سواء فيما بينهما أو مع داعش. هذه المواجهة إن حدثت ـ لا قدّر الله ـ لن يربح منها أحد، ففى الواقع أنا لست مع أولئك الذين يقولون إنه لو تقاتل الشيعة سوف يستفيد السنة والأكراد، فعندما تعّم الفوضى فإنها ستطول الجميع، وسهام الانتقام سوف تطول السنة والأكراد المتحالفين مع الصدر ومنافسيه، ثم هناك تنظيم «داعش» الذى يطّل علينا برأسه عبر عملية هنا وعملية هناك وفى تلك العمليات يسقط ضحايا من الجميع. ولذلك فلقد سارع منافسو الصدر إلى الإعراب عن رفضهم تشكيل حكومة لا يشارك فيها التيار الصدرى، وقد سبق لهم من قبل أن رفضوا انسحاب التيار الصدرى من الانتخابات البرلمانية فى العام الماضى ونجحوا فى إقناع الصدر فعلًا بخوض الانتخابات، فهل ينجحوا هذه المرة أيضًا فى الالتفاف على مهلته الزمنية وإقناعه بعدم الانسحاب؟ هذا ينقلنا إلى السيناريو الثانى وهو سيناريو تفاهم الطرفين على اسمّى كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وهو أمر صعب لكنه ليس مستحيلًا، فلا توجد مستحيلات فى السياسة. أما الصعوبة فإن منبعها هو التنافس على مَن يتحدث باسم الشيعة، يريد الصدر أن تنضوى كل القوى الشيعية تحت مظلة التيار الصدرى، وتصمم تلك القوى على أن تتعامل مع هذا التيار كما هى أى كأحزاب تشترك معه فى العقيدة الدينية وتختلف عنه فى التوجهات السياسية وكذلك فى التحالفات الخارجية. ثم هناك التنافس بين الأكراد على تسمية رئيس الجمهورية، فالحزب الديمقراطى الكردستانى المتحالف مع الصدر يتطلع للوصول إلى هذا المنصب الرفيع، لكن منافسه، أى الاتحاد الوطنى الكردستانى المتحالف مع خصوم الصدر يرفض ذلك ويستند فى رفضه إلى أن رئاسة الجمهورية كانت معه منذ عام ٢٠٠٥ مقابل تمتع الحزب الآخر برئاسة إقليم كردستان، وتلك قسمة العدل فى نظره.

السيناريو الثالث هو حل البرلمان وإجراء انتخابات نيابية مبكّرة، وهذا السيناريو منطقى إذا احتدم الموقف أكثر وتفاقمت حالة الاستعصاء السياسى الراهنة. ولنتذكّر أن القوى المنافسة للصدر والتى تراجعَت مقاعدها البرلمانية بشدة بعد انتخابات أكتوبر الماضى ــ شككّت فى نزاهة العملية الانتخابية، ومنها من دعا إلى إعادة الانتخابات برمّتها بل ولوّح باستخدام القوة فى حالة عدم إعادة فرز الأصوات يدويًا كحد أدنى، نعم هذا صحيح، لكن ماذا عن التيار الصدرى صاحب المركز الأول فى تلك الانتخابات؟هل يثق مقتدى الصدر فى أن يحصد نفس العدد الكبير من المقاعد وهو الذى كان يتكلم بأريحية تامة عن امتلاكه أغلبية الثلثين فى مجلس النواب ثم اتضح له المرة تلو الأخرى أنه لا يمتلك تلك الأغلبية؟ الأرجح أنه لن يقبل إعادة الانتخابات بسهولة.

أعان الله العراق على عبور هذا المفترق الخطير، وهو أمر يحتاج إلى درجة عالية من الحكمة فى إدارة الصراع السياسى وتقديم التنازلات المتبادلة، لأن الوضع لا يسمح لطرف واحد بأن يحقق مكسبًا صافيًا، وهذا معناه أن التوافق هو البديل للاقتتال. وبعد أن يتم ذلك ويسفر عن اختيار رئيس للجمهورية وآخر للحكومة أظن أنه لابد من فتح حوار وطنى حول بدائل نظام المحاصصة الطائفية بعد أن تبيّن بما لا يدع مجالًا للشك أن هذا النظام لم يعد صالحًا لاستمرار العمل به، وأن الهويات الفرعية للشيعة والسنة والأكراد آخذة فى الانتعاش يومًا بعد يوم على حساب الهوية الوطنية الجامعة.

التعليقات