جزيرة عبد الرحيم كمال

يستقي من الواقع أحداثه وشخوصه، ليعيد تشكيلها وصياغتها، بخيال مبدع لديه موهبة استثنائية، وثقافة واسعة تُمكّنه من الخوض في القضايا الشائكة ببساطة وعمق، وطرح أهم وأخطر الأفكار بسلاسة ووعي، وأسلوب فني وفكري ممتع ومشوّق يصل سريعا إلي الوجدان الإنساني، ويحلّق بالأفئدة بعيدا عن المباشرة والوعظ والخطابة.
ولطالما فاجأنا الكاتب عبد الرحيم كمال بالأماكن التي يختارها لتكون مسرحا لأحداثه وأبطاله، وهذا العام اختار "جزيرة غمام" في صعيد مصر، لينسج بداخلها عالما ينتمي إلي بداية القرن الماضي، ويصيغ رؤيته وأفكاره، ويصنع من ذلك الخيال الأسطوري عملا دراميا شديد الصدق والواقعية، نعيش معه جراح وأوجاع واقعنا الحالي بأدق تفاصيله، ونرى شخوصا وانماطا بشرية رُسمت بمهارة واحساس واع، تجسد نماذج إنسانية تعيش بيننا، وشخوصا موجودة في كل مكان.
قدّم عبد الرحيم كمال مع المخرج المبدع حسين المنباوى تحفة فكرية وبصرية، وعملا فنيا يغرد خارج السرب، دراما شديدة التميز في كل عناصرها الفكرية والبصرية، تعكس اهتمام المخرج بأدق التفاصيل، بداية من مواقع التصوير، الديكور، الملابس، المكياج، مرورا بالإضاءة، التصوير، الموسيقي، والمونتاج، أما التمثيل فحدّث ولا حرج، جاء اختيار الممثلين بمنتهي البراعة والذكاء، وكل منهم أتقن الشخصية التي يؤديها بامتياز، كل مشهد مباراة ممتعة في التمثيل، تُضفي علي الحوار مزيدا من التألق والوهج، الفنان طارق لطفي أو "خالدون" صورة للشيطان الذي يستخدم كل الأساليب للإيقاع بالبشر، ويؤكد من خلالها قدرته علي التلوّن والتنوع في الأداء ببراعة مذهلة، النجمة مي عز الدين "العايقة".. المرأة الغجرية الفاتنة، راهنت علي البطولة الجماعية، وكسبت الرهان وقدمت أفضل أدوارها. الفنان فتحي عبد الوهاب أو "محارب"، كعادته السهل الممتنع، نموذج للتطرف والغلو الديني دون مبالغة أو تحذلق، ومحمد جمعة "يسرى" الإنسان الذي يستغل الدين في الدجل وخداع البسطاء لتحقيق مكاسب مادية.
أما المبدع أحمد أمين فكان بحق مفاجأة العمل بأدائه السلس البسيط لشخصية "عرفات"، المسلم الوسطي المحب للحياة والجمال الذي أبدعه الخالق علي الأرض، والمتصوف الزاهد في الجاه والمال، الطامع في الرضا ومحبة الله، والإنسان الصادق الذي يمتلك قلبا عامرا بالنور والحب، ولا يمكن أن نغفل عظمة أداء "العجمي" رياض الخولي، المعلمة "هلالة" وفاء عامر، "بطلان" محمد البزاوى، و"الخالة مليحة" عايدة فهمي وغيرهم ممن أمتعونا.
لقد أعاد لنا الكاتب المبدع عبد الرحيم كمال زمن الكتاب الكبار، التي كانت اسماؤهم علي أي مسلسل تضمن مشاهدة عمل فني متميز، يحترم عقل الجمهور ويُمتعه فكريا وبصريا ووجدانيا.
" عن اخبار اليوم"

التعليقات