دروس من مسلسل الاختيار

ينشغل كثير من المصريين بقدر كبير من الشغف والوطنية بمشاهدة مسلسل الاختيار, وقد يرجع ذلك إلى أن المسلسل ينطلق من منظور مختلف يمزج بين الحقائق التاريخية والنزعات الوطنية، والأبعاد الفنية التى تتجلى فى الأداء التمثيلى الذى تصدى له عدد من كبار الفنانين. وفضلاً عن هذا فإنه يستوحى مادته من فترة تاريخية من أكثر فترات ما بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ خطورة, وهى الفترة التى انقضت فيها جماعة الإخوان على السلطة. وفى اعتقادى أننا فى الوقت الذى نستمتع فيه بمشاهدة هذا المسلسل والثناء عليه، فإننا بحاجة إلى أن نشتق منه دروساً نرفع بها الوعى الجماهيرى بعامة، ووعى النخب السياسية والاجتماعية والثقافية بخاصة، تجاه أمور تتعلق بتماسك المجتمع والمحافظة على هويته وعلى ثرواته وقدراته على الاستمرار. وعلى هذه الخلفية يأتى موضوع هذا الحديث حول أهم الدروس المستفادة من مشاهدة هذا المسلسل.

من أول هذه الدروس ما يتعلق بنظام الحكم فى الدولة، ومفاد هذا الدرس أن الحكم لا يدار فى ضوء المصلحة الشخصية الضيقة للفرد أو للتنظيم الذى ينتمى إليه. فقد كشف المسلسل عن وجود تيارين متعارضين، أحدهما يتمثل فى التمسك بالفكر الاستحواذى الإخوانى الذى يقسم البشر إلى فريقين، ويحاول أن يستحوذ على كل مفاصل السلطة مفضلاً مصلحة الجماعة على مصلحة الوطن. أما التيار الثانى الذى يتمسك به الجيش وكل القوى الوطنية فإنه يميل ميلاً كاملاً إلى الوطن، ويتعامل معه كوحدة واحدة وككيان لا يتجزأ.

والحقيقة أن التقابل بين الموقفين يكشف عن مدى الوعى بتكوين الدولة الوطنية؛ فتلك الدولة لا تقوم إلا على مبدأ المساواة بين المواطنين وضمان انفاذ العدل فى حوكمة الدولة، وهو مبدأ عام أكدته كل النظريات السياسية التى تأسست عليها الدول الحديثة، التى ترفض كل التوجهات الاحتكارية أو الاستحواذية التى تعطى الفرصة لفصيل أن يتحكم فى كل شئون الحياة، ضاربا عرض الحائط بفكرة الوطن والمواطن. وفى الوقت الذى تعمل النظرة الوطنية على بناء الوطن وتعبئة موارده من أجل الكل، فإن النظرة الجزئية صاحبة المصالح الشخصية أو التنظيمية فإنها تميت الوطن، إذ تزرع فى جسده بذور الاستحواذ الذى يهدم المواطنة والقيم العمومية.

ويتعلق الدرس الثانى بالتماسك الاجتماعي؛ فالمسلسل يؤرخ درامياً لفترة من تاريخ مصر تحاول فيها جماعة استحواذية أن تسيطر على مقدرات المجتمع وأن تستملك كل مستويات السلطة فيه. وهى تستخدم التفكيك والتقسيم لتحقيق هدفها، بل تدخل العنف كإحدى وسائل تنفيذ هذه الآلية. فهى إذ تحتكر الوظائف العليا فى الدولة وفى المستويات التنظيمية المختلفة؛ فإنها تزرع بذور فتنة وانقسام داخل المجتمع كله من ناحية وداخل كل مؤسسة على حدة؛ كما أنها تلجأ إلى العنف لقهر الخصوم، بل وقتلهم، أو منع مؤسسات بعينها من أداء دورها (كالاعلام والقضاء). ويؤدى ذلك إلى تصعيد الخلاف الفكرى والايديولوجى وتصعيد التباعد بين النظام السياسى وبين المجتمع. يبدو المجتمع فى هذا الظرف وكأنه يقف على شفا جرف يكاد ينهار إلى الفوضى. ثمة تضحية هنا بالوطن فى سبيل تحقيق أهداف سياسية، وثمة مشاعر زائفة بأن هذا التفريق والتمزيق يمكن أن ينتهى إلى مزيد من الاستحواذ والتمكين.

من الواضح أن هذا التوجه الذى تعكسه أحداث فعلية هو توجه خطير، فهو يدمر التماسك الاجتماعى ويضع استمرار الاجتماع الإنسانى المنظم على المحك. وفى مقابل هذا التوجه تكشف الأحداث عن مقاومة شرسة من جانب المجتمع ونخبه الوطنية وقواته المسلحة، مع قدر كبير من الوعى بخطورة تمزيق المجتمع، وأهمية الحفاظ على اللحمة الوطنية. فتلك الأخيرة هى المعبرة بحق عن هوية المجتمع المصرى، وهى التى منحته كل الطاقة التاريخية على الاستمرار والاستقرار، ومن ثم فإنها الضامن لاستمراره فى المستقبل متماسكاً و قادراً على أن يعبئ قدراته الذاتية وموارده من أجل رفاهية سكانه.

وإذا كان هذان الدرسان يقدمان قاعدتين مهمتين فى بناء الدولة الوطنية الصلبة، فإن هناك ثلاثة دروس أخرى لها أهمية خاصة، لأنها تتعلق بسلوك النخبة السياسية وطريقتها فى إدارة الأزمات. يتصل الدرس الأول بطريقة تداول الرأى داخل دائرة النخبة السياسية الحاكمة فى عهد الإخوان. تكشف الوثائق التى يعرضها المسلسل أن هذه النخبة لا تجيد عملية تداول الرأي. ويرجع السبب فى ذلك إلى استبعاد الرأى الآخر أو سماعه دون الأخذ به. ولقد اتضح ذلك فى عدم السماع لأى من النصائح أو الآراء التى قدمت من جانب النخب ذات التوجه الوطنى. إن جوهر الممارسة السياسية هو التدبر العقلى من أجل تحقيق الصالح العام. ولاشك أن عدم القدرة على تداول الآراء المختلفة والتوفيق بينها والوصول إلى اتفاق عام منها يسد الطريق أمام تحقيق هذه القدرة على التدبر، وبالتالى عدم ادراك الصالح العام. بل إنه يؤدى إلى اصدار قرارات سريعة غير محسوبة. ويتعلق الدرس الثانى بكفاءة النخبة السياسية فى الانجاز فى مقابل سعيها نحو تراكم السلطة. فمن الواضح من ممارسات النخب الاستحواذية أن جل همها هو تراكم السلطة وإثبات القوة أمام الشعب والكتل السياسية الأخرى حتى وإن تطلب الأمر استخدام العنف. هنا يغيب الانجاز السياسى والتنموي، ولا يصبح مطلباً أمام طلب السلطة واحتكارها. يعلمنا الدرس هنا أن هذا السعى يخلق نخبة فاشلة غير قادرة على توليد إرادة سياسية، ويتعلق الدرس الأخير بموضوع الإرادة السياسية القوية، ذات البعد الوطني. فلاشك أن وجود هذه الإرادة التى تتجاوز فى اختياراتها الحدود الضيقة وتضع أمامها المصلحة العليا للوطن، هو الذى يحافظ على الوطن ويدفعه إلى الأمام فى طريق التقدم. وكما قارنا فى بداية حديثنا بين توجهين سياسيين أحدهما استحواذى ضيق الأفق والآخر وطنى واسع الأفق، فإننا نستطيع هنا أن نقارن بين نخبتين سياسيتين الأولى لا تفكر إلا فى ذاتها فتفقد الإرادة والرؤية الوطنية والثانية تضع المصلحة العليا للوطن فوق كل شىء فتصبح قادرة على انتاج الارادة القوية. وتبقى الإرادة الأقوى للشعب صاحب الحضارة العظمى الذى ثار فى وجه ضيق الأفق وأنانية العطاء، ومنح الفرصة للنخبة الوطنية صاحبة الإرادة التى استعادت لمصر دورها التاريخى الرائد، وفتحت أمامها أفقا قويا للتقدم والتنمية.
عن الأهرام

التعليقات