صورة الأم

بمناسبة عيد الأم والربيع الطلق الذى لم يعد يختال ضاحكاً من الحسن، فإن الحديث عن الأم فى الكتب المقدسة يختلف عنه فى الأدب عنه فى الفن السينمائى أو التليفزيونى، فالأم فى الكتب السماوية بدأت بالسيدة هاجر التى تركها زوجها إبراهيم عليه السلام وسط صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء هى ورضيعها سيدنا «إسماعيل»، فتقبلت الأمر العسير المستحيل علينا هذه الأيام، وسعت بين الجبلين الصفا والمروة علها تجد ماء أو زرعاً، فأكرمها الله بأن أصبحت تلك شعيرة من شعائر الحج والعمرة، وتغلبت على الصعاب، وأنشأت مدينة مكة، وربت نبى الله إسماعيل، أما سيدة نساء العالمين «مريم» فإنها مثال للأم الصبور المستسلمة لأقدارها المؤمنة بالقدر وبالله، فلقد أنجبت سيدنا «المسيح» عليه السلام دون أن يمسسها بشر وهاجرت به إلى مصر فى رحلة العائلة المقدسة، وصبرت على الإيذاء وعلى التهم التى وجهت إليها راضية مستبشرة بفرج من الله حتى حين صلب السيد المسيح لم تجزع ولم تفقد صلابتها وإيمانها... أما والدة «موسى عليه السلام» فهى التى رضيت بأن تلقى برضيعها فى اليم خوفاً من بطش «فرعون»، وتقبلت أن تكون له مجرد مرضعة وتركت تربيته لـ«زليخة» زوجة فرعون، وهنا نجد نموذج الأم البديلة أو التبنى حيث نشأ وتربى «موسى» مع هذه الأم زوجة الفرعون الظالم، ومع هذا كانت خيّرة محبة لـ«موسى» وللناس..

وفى قصة سيدنا «محمد» ترى أمه آمنة التى وضعت يتيماً وأرسلته إلى الصحراء لترضعه «حليمة»، وبعد خمس سنوات عاد إليها لترحل بعد قرابة العام، فلقد حرم الرسول من حنان وسند الأمومة، وقدمت قصة المرضعة دليلاً على التضحية من جانب الأم والعطاء من جانب المرضعة، وفى التاريخ الفرعونى تتجلى قصة «إيزيس» التى جابت النهر بحثاً عن أشلاء زوجها «أوزوريس» لتعيده للحياة وتنجب منه ابنه «حورس» رمز الخصب والنماء وهى الأم والزوجة المحبة رمز العزيمة والوفاء والإصرار، وفى الأدب الإغريقى نجد «جوكاستا» أم «أوديب» زوجة «لايوس» ملك «طيبة» التى منعت الراعى من قتل ابنها «أوديب» ووصته بأن يتركه فى البرية لتدور السنين وتتزوجه وتنجب منه دون أن تعلم ودون أن يعرف وتكون النهاية المأساوية التى فقع فيها «أوديب» عينيه تكفيراً عن خطيئته التى حولها «سيجموند فرويد» إلى عقدة نفسية يعانى منها معظم الأبناء الذكور حيث الحب والانجذاب إلى الأم والرفض والابتعاد والغيرة من الأب وهذه العقدة الأوديبية شكلت المنهج النفسى لـ«فرويد» وما تلاه ممن طبقوا هذه النظرية النفسية على العديد من الأعمال الأدبية... وكانت رواية الأم لـ«مكسيم جوركى» الكاتب الروسى محفزاً لعديد من الكتاب ليكتبوا عن عبقرية الأمومة التى تتحول وتدخل معترك الحياة السياسية حباً فى ابنها، ثم فى وطنها، أما فى مصر فكانت ثلاثية «نجيب محفوظ» وصورة الأم «أمينة» معاكسة ومختلفة كلياً عن حقيقة دور الأم فى التراث المصرى، فالأم عند «محفوظ» كانت امرأة ضعيفة خائفة خانعة خاضعة ليس لها أى رأى أو دور فى تربية الأبناء أو فى الحياة الاجتماعية أو السياسية على العكس من «فاطمة ثعلبة» فى «الوتد» لـ«خيرى شلبى» التى أظهرت الأم بأنها عمود البيت الحاكمة الناهية الآمرة فى حياة أبنائها وكانت علاقتها بابنها الأكبر علاقة متكررة فى العديد من البيوت المصرية الريفية، فهى نموذج أصيل «لإيزيس» المصرية التى لم تلوثها أفكار المماليك والسلاملك والحرملك العثمانية فى البيئة القاهرية، وجاء «إحسان عبدالقدوس» ليكتب «إمبراطورية ميم» التى جسدتها الرائعة «فاتن حمامة» فى فيلم أحدث ضجة حيث تبدلت صورة الأم من بائعة الخبز والست الناظرة والتلميذة حيث الأم البسيطة المقهورة المظلومة إلى تلك الأم مديرة المدرسة الجميلة الشابة التى لديها ستة من الأبناء اليتامى تربيهم وحيدة وترفض الزواج رغم وقوعها فى الحب لأن لديها مهمة كبرى فى استكمال مسيرة الحياة لهؤلاء الشباب والمراهقين والصغار، فهى تعيش حيواتهم بدلاً من حياتها، وتتقبل الوضع بنفس وقلب راضٍ آملة فى غد أفضل، وهكذا تبدلت صورة الأم لنصل إلى «لا تسألنى من أنا» وهو فيلم عن قصة لـ«إحسان عبدالقدوس» جسدتها «شادية» و«يسرا» و«مديحة يسرى» فى دور الأم البديلة التى تبنت ابنة الخادمة الفقيرة «شادية».. ومع هذا نجد الكاتب «أسامة أنور عكاشة» يلقى دوماً باللوم على الأم ففى معظم أعماله نجد أماً تركت صغارها لتتزوج من آخر ثرى وتعود بعد سنين طالبة السماح ولم الشمل... وفى «أم العروسة» و«الحفيد» لـ«عبدالحميد جودة السحار» كانت الأم تلعب على وتر حبها ورغبتها فى زواج بناتها وتجهيزهم دون النظر لظروف وإمكانيات الزوج... وتظل الأم صورة ومعنى فى الحياة، وفى الأساطير وفى الكتب السماوية وفى الفن وعلى الشاشة وبين الحشا وفى القلب والروح والوجدان إلى أن نعود إلى رحمها مرة أخرى.
"عن الوفد"

التعليقات