حرب أوكرانيا.. زيلينسكي آخر من يعلم

تقوم المؤامرات وخطط الحروب بطبيعتها على السرّيّة التامّة، ويمثّل عنصر الخداع والمفاجأة أهمّ عناصرها، لكنّ الحرب الروسية الأوكرانية 2022 خالية تماماً من السرّيّة. بل إنّها واضحة إلى الحدّ الذي تختفي فيه المسافات بين رؤية الأشخاص العاديّين ورؤية كبار الاستراتيجيّين.

حرب على الهواء
في عام 2014 فوجئ العالم بأنّ ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم. ثمّ فوجئ بعد قليل بامتداد التوتّر إلى إقليم دونباس في شرق البلاد. وقد قتل في ذلك التوتّر أكثر من 14 ألف شخص، ونزح نحو مليون ونصف مليون عن ديارهم.
لم تعد هناك مفاجأة أخرى بعد هذه المفاجأة، إذْ سرعان ما راج الحديث عن انفصال شرق أوكرانيا، والرعاية الروسية لذلك الانفصال.
في عام 2021 كانت الأمور تتّجه إلى الصدام أكثر من ذي قبل، ثمّ بدأت وسائل الإعلام تنشر تحرّكات القوات الروسية باتّجاه الحدود الأوكرانية بانتظام.
لم تعد هناك أيّة سرّيّة منذ تلك الأثناء، ففي كلّ يوم تقريباً تنشر وسائل الإعلام الغربيّة التعداد الجديد للقوات الروسية. ولمّا وصل العدد إلى 100 ألف جندي، تصاعد الحديث عن الاستعداد الروسي لغزو أوكرانيا. لا شيء سرّيّ، فالصحف تنشر الأرقام اليوميّة لقوّات الاجتياح، وتنشر الأرقام اليومية لضحايا الجائحة.
كانت الصحف تنشر أيضاً الخطّة الكاملة للغزو، وتفاصيل المحاور التي ستتقدّم من خلالها القوات الروسية، وكان بعض الساسة، ولا سيّما البريطانيّين، يتحدّثون عن تفاصيل عسكرية على نحو غير مسبوق.
كانت الإدارة الأميركية بدورها تتحدّث بدرجة عالية من الدقّة عن خطّة الغزو، وتوقيتها، وتفاصيل العقوبات القادمة على روسيا. وهكذا لم يعد الغزو يمثّل مفاجأة، ولا مسارات القوات الروسية، أو جدولها الزمني، أو أسلحتها المستخدَمة تمثّل أيّة سرّيّة، كان كلّ شيء على الهواء.

استثناء وحيد
فيما كان الإعلام العالمي ينقل تفاصيل الغزو الروسي الوشيك لأوكرانيا، كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وحده الذي ينفي وقوع ذلك.
في الشهر الأوّل من العام الجاري 2022 طالب الرئيس زيلينسكي الغرب بأن يكفّ عن إثارة الذعر، وافتعال التوتّرات بشأن الغزو الروسي، وقال إنّه لا يوجد أيّ شيء جديد، ولا وجود لذلك الغزو إلّا في الإعلام. ثمّ قال الرئيس بحسم شديد: "الإيحاء بأنَّ هناك غزواً يضرّ بنظامنا، ويؤثّر على اقتصاد بلادنا. أنا رئيس أوكرانيا، وأنا موجود هنا، وأعرف تفاصيل ما يجري أكثر من أيّ رئيس آخر. وأقول: لا غزو".
ثمّ في الشهر الثاني وقبل أيّام من الحرب، انتقد الرئيس مغادرة الدبلوماسيّين الأجانب والرعايا، وقال: لماذا يرحل الدبلوماسيون الأميركيون والبريطانيون؟ يجب أن يكونوا مثل قبطان السفينة، آخر من يغادر، ومع ذلك لا أعتقد أنّ لدينا "تايتانيك".
وقعت المفاجأة التي توقّعها الجميع، وقامت روسيا بغزو أوكرانيا. كان الرئيس وحده هو مَن فوجئ بالأمر، وقال غاضباً: "لقد تركوا أوكرانيا وحدها في مواجهة روسيا"، ثمّ تساءل: "من مستعدّ للقتال معنا؟".. ثمّ أجاب: "لا أرى أحداً".

دور سياسيّ لنادي تشيلسي
نال الرئيس تقدير عدد كبير من الأوكرانيين لأنّه رفض الاستسلام، وقرّر المواجهة والمقاومة. لكنّ بعض قراراته لم تكن موضع تقدير بالمقابل.
أمر الرئيس بالإفراج عن المجرمين ذوي القدرات القتالية من السجون للانضمام إلى المقاومة. ودعا أيّ مقاتلين في العالم للقدوم إلى بلاده، والانضمام إلى "فيلق الأجانب".
في الوقت نفسه كان مساعدوه قد طلبوا من مالك نادي تشيلسي، وهو ملياردير روسي مقرّب من الرئيس بوتين، التوسّط لعقد مفاوضات سياسية، من أجل حلّ الأزمة.
كان الأكثر إثارة في كلّ ذلك هو طلب الرئيس من الاتحاد الأوروبي ضمّ بلاده فوراً إلى عضويّته، وهو مطلب يتّسم بالغرابة الشديدة، ذلك أنّ أوكرانيا في وضع الاستقرار لم تتمكّن من دخول الاتحاد الأوروبي، ودول عديدة مستقرّة ومزدهرة مكثت سنوات طويلة حتى انضمّت، وتقف تركيا منذ عقود طويلة على باب أوروبا من دون قبول.
لقد ترك الغرب أوكرانيا لمصيرها، وراح يركّز على تقوية بولندا ورومانيا أو ما بعد أوكرانيا. ثمّة مساعدات عسكرية قدّمها الغرب لأوكرانيا. ففي الأيام الأولى للحرب قدّمت 17 دولة أوروبية والولايات المتحدة مساعدات لكييف، لكنّ تلك المساعدات هي مساعدات "عديدة" وليست مساعدات "كبيرة".
قدّمت الولايات المتحدة قرابة نصف مليار دولار فقط، وقدّم الاتحاد الأوروبي مساعدات بالمبلغ نفسه تقريباً.
نشرت الصحف أنباءً غزيرة عن مساعدات كندا والتشيك وغيرهما، وكانت مساعدات كندا قرابة 20 مليون دولار، وأمّا مساعدات التشيك فقد كانت 8 ملايين دولار. والأرجح أنّ إجمالي المساعدات الغربية لأوكرانيا لم تتجاوز مليار دولار بكثير. وأمّا ثلث المليار دولار الذي أرسلته كندا إلى أوكرانيا، فقد كان قرضاً لا مساعدات.
كوكب في خطر
لقد مضت الحرب الأوكرانية أسرع ممّا يمكن تخيّله إلى التلويح بالخيار النووي، فبعد أربعين ساعة تقريباً أصبح الحديث عن استخدام السلاح النووي شائعاً. قام رئيس أوكرانيا بالتلويح بامتلاك أسلحة نووية، وترى روسيا أنّ كييف تشير إلى أسلحة نووية تكتيكية تضعها الولايات المتحدة في ألمانيا، وقد تنقلها إلى أوكرانيا.
بدورها قامت بيلاروسيا بتعديل دستورها ليسمح بوجود قوات روسية وأسلحة نووية بشكل دائم على أراضيها. أمّا موسكو فقد رفعت حالة التأهّب النووي.
تهدّد الولايات المتحدة بتدمير الاقتصاد الروسي، وتهدّد روسيا بكلّ الخيارات. ووسط ذلك كلّه لا تزال الجائحة تعصف بمجتمعات عديدة حول العالم، فيما يزيد الجوع والفقر في عالم بائس.
بينما يذرف العالم الدموع على ضحايا الحرب ومواكب اللاجئين، تخشى الإنسانية من أن تفلت الأمور خارج زمام السيطرة.
إنّ خطـأ واحداً قد يكون الخطأ الأخير.

التعليقات