عودة سد النهضة

عاد سد النهضة الإثيوبي إلى العناوين مرة أخرى، بعد وقت ليس بالقصير، على خلفية الصراع والحرب الأهلية التي عصفت بكيانات وأقاليم وسكان في إثيوبيا، تحت سمع وبصر العالم ومنظماته الدولية، ويبدو أن مانحي جائزة نوبل للسلام في البرلمان النرويجي، إما استشعروا الحرج لمنحهم الجائزة قبل أكثر من عامين، في ليلة صادفت مئوية الجائزة، إلى رئيس حكومة لا يتراجع عن قتل شعبه، وعن قيادة الجيش بنفسه، لمحو سكان إقليم في بلاده، من دون أن يطرف له جفن.

وكان آبي أحمد فاز بالجائزة بدعوى إنهاء القتال مع الجارة إرتيريا، ويبدو أن جهات دولية طالبت بسحبها بسبب الدماء المجانية التي تجري على أرض إقليم تيجراي.

ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة فإن 108 أشخاص قتلوا على الأقل منذ مطلع يناير الحالي، في ضربات جوية شنتها القوات الإثيوبية على إقليم تيجراي، متحدثة عن احتمال أن تكون قد ارُتكبت جرائم حرب.

والتطور الجديد في ملف سد النهضة يتضمن العديد من الملاحظات المهمة:

أولًا: لم يرتقِ بيان لجنة منح جائزة نوبل للسلام الصادر أخيرًا إلى مستوى الحدث، وقال رئيس اللجنة بيريت ريس آندرسن: "كرئيس للوزراء وحاصل على جائزة نوبل للسلام، على آبي أحمد مسئولية خاصة بإنهاء النزاع والمساعدة في إحلال السلام".

وصحيح أن البيان نادر لكنه ليس أكثر من غسيل لليدين والاستدارة للخروج من الباب الخلفي، لأنه بعد إشارة إلى أن "الوضع الإنساني في إثيوبيا خطير للغاية"، وصف عدم وصول المساعدات الإنسانية إلى المحتاجين إليها بأنه "من غير المقبول".

ثانيًا: الحقيقة الصادمة أن العالم فقد أو تخلي عن وسائله للرد على حكومة أديس أبابا، وبالتالي يكون من واجبها عدم الاكتراث، والأكثر من ذلك الغضب.. فقد شنت أخيرا هجوما لاذعا على مواطنها المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم واتهمته بـ "سوء السلوك وعدم الارتقاء لمستوى النزاهة والتوقعات المهنية المطلوبة من منصبه".

وكان تيدروس عبر عن الأسف للوضع في بلاده ودعا إلى وصول المساعدات الإنسانية إلى إقليم تيجراي الذي يمزقه الصراع. وقال: "لا يوجد مكان في العالم نشهد فيه مثل هذا الجحيم في تيجراي"، ودان تيدروس الحصار الذي تفرضه إثيوبيا على تيجراي، وأوضح أن "مجرد احترام النظام الدستوري من شأنه إيجاد حل سلمي لهذه المشكلة".

ثالثًا: أعلنت أديس أبابا بشكل أحادي كما عودتنا عن استعدادها لعملية الملء الثالث وأنها ستبدأ قريبا في إنتاج الطاقة من السد وأن السودان سوف تستفيد أو هي المستفيد الأكبر من هذا الحدث، وأن ذلك لا يعني توقف المفاوضات الثلاثية حول القضايا العالقة.. هذا الإعلان الجديد فيما يخص سد النهضة لا يكشف عن أي تغيير في أساليب أديس أبابا في التفاوض الثلاثي.

فالحكومة الإثيوبية وكما فعلت دائما، لا تنظر إلى إمكانية التعاون والتنسيق والتشاور، وتتمسك بإعلان المبادئ الموقع في مارس عام 2015 نظريا، لكنها لا تنفذ بنوده العشرة أبدا، ومن بينها: التعاون في الملء الأول وإدارة السد وقواعد التشغيل والتوصل إلى آلية تسوية النزاعات، بينما تتحدث الآن عن الملء الثالث.

وتصب تصريحات أديس أبابا حاليا في مزيد من الجدل العقيم حول النظرة الاستعلائية الإقصائية المصرية التي هيمنت على مياه النيل لأكثر من قرن، وعن الدعاية المصرية السلبية ضد إثيوبيا، وعن حرمان أديس أبابا من حقها في التنمية، والخشية من منافسة إثيوبية في سوق الطاقة في شرق إفريقيا.

كل هذا التهرب يحول المفاوضات إلى ضجيح من دون طحن. وقد فطنت مصر إلى ذلك بعد مرور الكثير من الوقت، وكان مبررها هو إعطاء المفاوضات فرصة واللجوء إلى إبداء حسن النوايا، رغم الغضب المكتوم في أوساط الرأي العام.

رابعًا: ما زالت القاهرة تتمسك بالحل التفاوضي، وهو أمر له مبررات، لأنه ليس من الفطنة أن تلوح أمام العالم بخيارات أخرى، كذلك فإنه يبقي في الإمكان دفع العالم إلى مزيد من الاهتمام بالسلم والأمن في ملف ينذر بالخطر.. ولم تترك فرصة للتفاوض ومساحة للحكمة، وبعد أن تدخلت واشنطن واستضافت مفاوضات أفشلتها إثيوبيا، ذهبت القاهرة والخرطوم إلى مجلس الأمن، لدفع العالم نحو تقديم قراره بأهمية سرعة الوصول إلى اتفاق بشأن ملء وتشغيل سد النهضة.

وشرح الرئيس السيسي في منتدى شباب العالم في شرم الشيخ أنه حرص منذ توليه حكم البلاد على إدارة أزمة وقضية سد النهضة من خلال الحوار الهادئ بعيدا عن أي شكل من أشكال الانفعال والتشنج، وأكد السيسي أن هذه القضية يمكن أن تحل عبر اتفاق قانوني ملزم بشأن ملء وتشغيل السد.

وأكد الرئيس السيسي، أن التعاون دائما ما يكون أفضل، وأن مصر تنظر - دائما - بكل تقدير وإيجابية إلى التنمية لأشقائنا في إثيوبيا، لكن؛ ألا يكون على حساب المياه، ونبه الرئيس السيسي، إلى أن مصر وصلت إلى مرحلة الفقر المائي، طبقا لتقارير ومعايير الأمم المتحدة.. وأكد أن مصر تنظر إلى الأشقاء في إثيوبيا بكل إيجابية، ومستعدة للتعاون مع كل الأشقاء في دول حوض النيل من أجل الرخاء للجميع.

خامسا: أما المفاوضات التي ترعاها رئاسة الاتحاد الإفريقي فقد تحولت إلى فصول من الممانعة الإثيوبية، وهي بدأت تحت رئاسة جنوب إفريقيا، ولم تصل إلى شيء، ثم انتقلت طوال العامين الماضيين إلى الكونغو الديمقراطية، وتعثرت، ونحن الآن على أبواب رئاسة سنغالية للاتحاد، سوف تعلن رسميا في مطلع فبراير المقبل خلال القمة الإفريقية الـ35 في العاصمة الإثيوبية، والتي يتسلمها الرئيس السنغالي ماكي سال، ويتسلم معها ملفات القارة ومنها سد النهضة.. لعلّ وعسى.

التعليقات