دار الإفتاء ومواجهة ظاهرة الطلاق

أعلنت ثلاث مؤسسات رسمية مصرية، وهى: دار الإفتاء والأزهر والأوقاف، تنفيذ مبادرة (فضيلة المفتى) في وضع استراتيجية خاصة لحوار مجتمعى، بالتعاون مع مؤسسات الدولة ذات الصلة لمواجهة انتشار ظاهرة الطلاق، وقد تم الاتفاق بحضور كبراء هذه المؤسسات ولفيف من أهل العلم على «أطر ومحاور» المشروع التوعوى المشترك بين الجهات الثلاث، والذى يهدف إلى زيادة الوعى الأسرى والمجتمعى بقضايا الأسرة ويعالج مشكلاتها، ويضع حدًا لهذه الظاهرة المدمرة.

أيها السادة الأكابر الأفاضل «سعيكم مشكور وذنبكم مغفور». فقد سبق السيف العذل، وامتلأت المحاكم بالمنازعات والملاحقات وتبادل الاتهامات بين أحبة الأمس.. آلاف القضايا عن إثبات واقعة الطلاق، وملايين القضايا حول النفقة والصداق والمؤخر والمنقولات ومصروفات المدارس والحضانة والولاية والرؤية تنظرها المحاكم منذ سنوات، وتتوق وتتلهف القوارير لحل المنازعات والخلافات قبل النزع الأخير أو فوات الأوان.

تأخرتم كثيرا أيها السادة ولم يعد للنصيحة متسع عند الخصوم، فقد ضاقت على الأحبة والأقارب والأصدقاء، واتسعت فجوة الشقاق، ولم يعد يجدى مع الرتق حكمة مصلح أو عظة داعية، إلا أننا نضع فيكم أملا كبيرا، عسى أن تنصفوا المظلومين وتعدلوا بين خلق الله.. ضيقوا على الناس طرق الطلاق ما استطعتم إلى ذلك سبيلا، وقيدوا وشددوا على الناس السبيل إليه ما كان للناس فيه متسع وطاقة، واجعلوا السعى إليه شاقًا، والسير في سبيله عسيرا وباهظا مادام فيه مصلحة ومنفعة للأسرة والمجتمع، ولا سبيل يا سادة لهذا إلا بأن يكون إتمام إجراءات الطلاق أمام القاضى بعد الفصل في كافة الحقوق والواجبات والالتزامات بين الطرفين، وتحديد مسؤوليات وواجبات كل طرف بما يضمن حياة مستقرة للمطلقة وأولادها، وبغير هذا لا يقع الطلاق.. عندها فقط يستقر الحال إلى حد كبير، ويكون هذا هو الفضل العظيم، والكرم الوفير، والمراد منكم ليس غير، وهو مبدأ شرعى معتبر اعتمده كثير من الفقهاء والمذاهب، وعلى رأسهم المذهب الجعفرى «أى طلاق دون إثبات لا يقع».

هذا هو المطلوب من السادة رجال الدين، وكفى.. وإن كنت أتمنى أن يكون عقد الزواج مدنيًا شاملًا مانعًا بين الطرفين، وربما يتأتى ذلك للأجيال القادمة.. أما عن الظاهرة نفسها، فلن يستقيم حالها بالتوجيه، ولن يعتدل المعوج فيها بالإرشاد، بل بقانون حازم يحجّم ويقيّد هذه الظاهرة، ودراسة أسباب الطلاق دراسة علمية ميدانية يشارك فيها أصحاب الشأن والعلم وأساتذة القانون وعلماء الاجتماع والنفس والجريمة والاقتصاد والأمن، هذا هو المنبع والمنهل الرئيسى لهذا القانون والتوصيات.. وإن كان بكل أسى وأسف كل هذه المناصب والمراكز قد تم إفراغها من محتواها العلمى، وتم تهميش دورها المجتمعى عن قصد وسوء نية، فغابت عن الساحة وعزلت نفسها برضاها أو بغيره عن دورها القومى، وتجمد دورها في المجتمع، هي وكل المراكز البحثية والعلمية صاحبة الرأى والقرار، وأصبحت واجهات على المبانى الحكومية لا تؤدى دورا ولا واجبا، حتى استفحلت المصائب والكوارث، وتفشت وعمّت البلايا والقوارع التي تنذر بخطر مدمر، ولم تفلح يوما في حل مشكلة من المشاكل وُلدت هزيلة يوم مولدها حتى تفاقمت وتضخمت كالجبال الرواسى يصعب حلها أو زحزحتها.. وخذ عندك وعند غيرى الكثير من أسباب الطلاق منها: التسرع في اختيار شريك الحياة، وغياب التكافؤ المادى والعلمى والثقافى والإجتماعى بين الطرفين، وتدخل الأسر في أمور الزوجين، وغلاء الأسعار وعدم القدرة على تحمل أعباء الحياة فيهرب طرف ويتنصل من مسؤولياته ويترك الآخر، وطريقة تربية الأبناء وعدم قدرتهم على تحمل المسؤولية، والاعتماد على الديون والقروض لمواجهة أعباء الزواج من ناحية وأعباء الحياة من ناحية أخرى مما يمثل ضغطا على الحياة الزوجية، البطالة واستغناء بعض الشركات عن خدمات طرف من الطرفين، السوشيال ميديا ومخاطر وسوء استخدامها، فقدان القدرة على التواصل وانسداد قنوات الاتصال بين الزوجين، سوء المعاملة، عدم توزيع المسؤوليات والواجبات بطريقة عادلة.. وغير هذا من أسباب كثيرة يمكن حصرها ميدانيًا.. ومن هنا نبدأ الحل في صورة توصيات وقرارات ومشروعات بقوانين يتم تنفيذها وفق برنامج محدد دون تدخل من رجال الدين أو إدارتهم لهذا الحوار حتى لا يقيد ويمنهج الحل في قالب راديكالى.. هكذا تقدمت الأمم، وهذا هو المنهج العلمى لإدارة المشاكل وإزالة الصعاب.

«ومادام الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» مقولة يرددها المشايخ على مسامعنا ليل نهار، والمراد من هذا القول أن الله يمنع بالسلطان ويردع أكثر من أن يمنع بالقرآن.. فبذلك تصبح معالجة الأخطاء والسقطات والإفساد إذا تفشى بالردع وبالقانون وليس بالموعظة والنصيحة.. فلا صلاح ولا استقامة إلا به.

«الدولة المدنية هي الحل»

التعليقات