البيعة بالرضا أو السيف فى الدولة الدينية

البيعة هى نظام اختيار الحاكم فى الدولة الدينية عند المسلمين، وتعريف البيعة عند ابن خلدون هو: (العهد على الطاعة، والمبايع يعاهد من بايعه على أن يسلم له أمر نفسه كلها، لا ينازعه فيها منازع، ويطيعه فيما يكلفه فى المنشط والمكره «أى فيما يحبه وفيما يشق عليه»)، وشبه ذلك بالبائع والمشترى، وكأنه باع كل ما عنده إليه خالصا.

وبيعة الخليفة أو الإمام لا تقطع إلا إذا مات أو كفر كفرا بواحا، أو مرض مرضا يحول بينه وبين أعمال الولاية، ولا يجوز أن يُبايع خليفتان للمسلمين فى وقت واحد، وإلا يقتل أحدهما، وزعموا فى هذا عن الرسول «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»، وفى هذا يقول النووى صراحة: «لا يجوز أن يعقد لخليفتين فى عصر واحد، سواء اتسعت دائرة الإسلام أم لا»، وهى نقطة خلاف بينهم، منهم من يرى انعقادها لواحد فقط مهما اتسعت مساحة الدولة الإسلامية، ومنهم من يرى انعقادها لأكثر من خليفة أو إمام إذا تعددت ممالك المسلمين. والبيعة تنعقد إما بالرضا أو بالغلبة «بالقوة».

يقول أحمد بن حنبل: (ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى نفسه أمير المؤمنين، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه، برا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين) لحديث الرسول: «من مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية»، وكما كانت المعارضة تواجه بالسيف، فإن التأييد والقبول والموافقة كانت تأتى وتدرك بالسيف أيضا، وهذا مبدأ ثابت وراسخ فى تاريخنا الإسلامى، ويمكن لأهل الحل والعقد بيعة الإمام نيابة عن الناس أو بعضهم، أى أن البيعة واجبة وجوبا «كفائيا» يجوز أن يؤديها البعض عن الكل، وفى هذا يقول أحدهم: «يكفى فى بيعة الإمام أن يقع من أهل الحل والعقد ولا يجب الاستيعاب (الجمع)، ولا يلزم كل أحد أن يحضر عنده ويضع يده فى يده»، ويرى النووى: «لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد»، ببساطة يصبح المسلمون فجأة على بيعة لخليفة ما سرا من غير تأهيل، ولمن يوافق عليه من محاسيب ومشايخ وطبالى وزمارى الإمام، حتى لو كان على غير مرادهم ورغباتهم، وإلا حاربهم الإمام وقتلهم وقاتلهم على شريعة من الحق.

وتطورت فنون البيعة عند الخلفاء من بيعة الخليفة ذاته إلى بيعة ولى العهد من بعده، فقد بويع يزيد بن معاوية فى حياة والده الخليفة معاوية الأموى، وإن استنكره الناس، بل وصل الأمر إلى بيعة الوليد، الأخ الأكبر، ومن بعده سليمان أخوه الأصغر، فى حياة والدهما الخليفة العباسى عبدالملك بن مروان، ولما رفض «سعيد بن المسيب» هذا الخروج سيق إلى «الثنية»، وهى منطقة فى المدينة المنورة خصصت للإعدامات العامة، الغريب فى الأمر أن كثيرا من الفقهاء وافقوا على هذا الخرق لفكرة البيعة، وأجازوا إعدام من عارضها، وكأن المعارضة ورفض الخليفة خارج أهل الحل والعقد مروق من الدين، والخروج عن الحاكم خروج عن شرع الله، ورافض البيعة يقتل.

ثم ماذا عن الخليفتين «البغدادى والظواهرى» فى الشام وأفغانستان، داعش والقاعدة، وقد كفر كل منهما الآخر، وأنكر كل منهما خلافة الآخر، وطعن فى بيعة كل منهما الآخر، وإياك أن تظن أن هذا الشكل من الخلافة ببعيد عن تكوين وتشكيل الخلافات الإسلامية فى تاريخنا الإسلامى، ومنها الأموية والعباسية والعثمانية «جميعهم فى واحد».. وقد استنكر وكفر أيمن الظواهرى فى خلافة البغدادى، وكذلك البغدادى استنكر وكفر خلافة الظواهرى، وكان بيان كل منهما صورة من الآخر، وقد استهل الأول بيانه (إنه خليفة المسلمين جميعا، وقد انعقدت له البيعة من أهل الحل والعقد فى أفغانستان، وأصبحت ملزمة لعموم المسلمين فى كل مكان، واعتبار خلافة البغدادى باطلة شرعا)، وكذلك الخليفة البغدادى سار على نفس الخطى، ويعتبر (أنه خليفة المسلمين جميعا، وقد انعقدت له البيعة من أهل الحل والعقد فى العراق والشام، وأصبحت ملزمة لعموم المسلمين فى كل مكان، واعتبار خلافة «الظواهرى» باطلة شرعا)، الاتهام متبادل بين الخليفتين، وكل بيان منهما يحمل أسباب سقوط خلافة الآخر من الناحية الشرعية.

واستندا إلى هدم الخلافتين على الأسباب الآتية: أولا: صدور إعلان الخلافة من فئة باغية مارقة، تتخذ من التكفير واستحلال الدماء دينا، منحرفين عن منهج الله، «وقد انحرفا الاثنان عن منهج الله، كما انحرف الذين من قبلهم، وضلوا ضلالا مبينا، ولم يفلت منهم أحد»، ثانيا: «الانفراد بإعلان الخلافة دون أهل العلم والرأى»، وقد كان أهل الحل والعقد عند الخلافتين أهل هوى وضلال وخداع، وما برئ منهم أحد، ثالثا: «غياب مقومات الدولة شرعا، وقد غابت عنهما معا»، رابعا: «قهر الناس على البيعة، وهذا حق ساطع، يسقط كل الخلافات التى قامت على القتل والسفك، ولا أظن أن واحدة منها تنجو من هذا الجرم»، خامسا: «تعيين خليفة مجهول الحال»، وفى نهاية بيان كل منهما دعا الاثنان جموع المسلمين إلى التصدى للخلافة الزائفة، واعتبار كل واحدة منهما خارجة كخوارج الإمام على، وجب قتالهم، وتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ورفع مشايخ الطرفين أكفهم بالدعاء على الآخر بالهلاك والفناء، وردد المسلمون هنا «آمين» وهناك «يارب»، وعيونهم تفيض من الدمع «مما عرفوا من الحق»، كما كان دعاء كل المتقاتلين فى تاريخنا الإسلامى والمصاحف على أسنة الرماح.

(الدولة المدنية هى الحل).

عن (المصرى اليوم)

 

التعليقات