الطبقة الوسطى.. تفكيك ذائقة الجمال

تعتبر الذائقة الجمالية، أي الشعور بالجمال وتذوق أبعاده ومعانيه، أحد المكونات الأساسية في البنية العقلية والنفسية للفرد. ولذلك فإن تربية العقل وتكوينه لا ينفصل عن تربية الذائقة الجمالية، فكلاهما لازم لبناء الإنسان الحديث القادر على الإبداع والتدفق الدائم الذي لا تحده حدود. لا غرابة إذن في أن نجد المفكرين والفلسفة الكبار يولون أهمية كبيرة لتربية الذائقة الجمالية ضمن العمليات التكوينية للنشء. ولقد اعتبر فيلسوف الحداثة الكبير عمانويل كانط (1724-1804) ملكة الحكم، وذائقة الجمال العمود الفقري، أحد الأضلاع الأساسية في مشروعه الفلسفي ذي الأبعاد الأربعة: العقل الخالص، والعقل العملي، وملكة الحكم، وبناء الواجب الأخلاقي. فلا سبيل إلى بناء عقل مستقيم قادر علي تطوير أفكار عملية، ومجتمع صالح ومتكامل دون بناء مكون الجمال في ذات الفرد، ونحت مفهوم الواجب الأخلاقي في وجدانه.
وقد يدعونا ذلك إلى أن نتأمل هذه القضية المهمة في سلوك الطبقة الوسطى ومنتجاتها الحياتية منذ بداية الربع الأخير من القرن العشرين. والسؤال المحوري الذي نبني عليه المجادلة في هذا المقال يصاغ على النحو التالي: هل نجحت هذه الطبقة في أن تقوي من ذائقة الجمال في الحياة العامة والخاصة؟ وليس بغريب ان يوجه هذا السؤال الي الطبقة الوسطي، فهي التي قررت وحكمت ونفذت وحصدت، وهي قائدة التغبير في الحياة المصرية منذ منتصف القرن العشرين. وإزاء هذا السؤال سأحاول طرح بعض القضايا المتصلة التي قد تسهم في تفكيك موقف الطبقة الوسطى من هذه القضية.
لنتأمل أولاً طبيعة العمران الذي انتجته هذه الطبقة خلال السنوات الخمسين الماضية. لنتأمل سوياً أحياء الطبقة الوسطى في الحضر، وعمران المدن الجديدة، وعمران المنتجعات الساحلية، وجميعها من إنتاج هذه الطبقة، فهي صاحبتها (قراراً، وإنتاجاً، واستخداماً). تتشكل هذه الأحياء من كتل خرسانية لا حياة فيها، وهي لا تتبع أي شكل من أشكال التنسيق الحضري من حيث الألوان والأحجام والارتفاع، ومورفولوجيا الواجهات الخارجية، كما تقل فيها إلى حد كبير المساحات الخضراء والمتنزهات العامة، فثمة تكدس عمراني واطلالات خرسانية على حساب الفضاءات في الشوارع والميادين والمساحات المخصصة للسيارات. ولا يتعلق الأمر بطبيعة العمران فحسب، بل يمتد إلى إدارته. فالعمران يترك وشأنه، دون حسم في تطبيق القوانين المنظمة لاستخدام الشوارع والأرصفة، وما يفعله الأفراد في المساحات الأمامية للمنازل أو العناية بأرض الشوارع وأرصفتها وتخضيرها أو تدريب السكان على رفع القمامة منها. ولقد أدى هذا الترك إلى أن تدار، الشوارع والمساحات الفارغة، من قبل حراس المساكن وذويهم ومن قبل من يفرضون عملهم في تنظيم وقوف السيارات وحراستها. وإذا كان العمران قد نَضَدَ على هذا النحو وادير بهذا الترك، فماذا يبقى منه إلا أن يكون عمراناً مكدساً ومقلقاً وغير باعث لأية إشارات أو رموز جمالية يحتضنها الوجدان القاطن فيه ويتربى عليها.
وانتقل بسرعة إلى موضوع آخر يرتبط بطبيعة المنتجات الفنية لهذه الطبقة، وأركز بشكل خاص على المنتجات التي تبث عبر عالم الصور خاصة الأفلام والدراما والإعلان. لقد كانت الطبقة الوسطى المصرية رائدة في صناعة السينما العربية التي بدأت أول إنتاجها عام ١٩٠٧، كما كانت رائدة في صناعة الدراما والإعلان، وفي مجالات إبداعية أخرى. لقد أنتج المبدعون المصريون أعمالاً فنية نافست على المستوى العالمي، ولكن مع دخول مصر بقوة في آتون النظام الرأسمالي العالمي، وسيطرة اقتصاد السوق على مقدرات الحياة بدأ الإنتاج الفني المصري يفقد قدرته على الاستقلال وعلى البحث عن متطلبات الجمال الفني. فقد أصبحت الاعتبارات المادية أكثر غلبة وأشد جلبة، وتداخلت صناعة السينما والدراما والإعلان مع قطاعات تجارية وصناعية أخرى، فأصبح إنتاج هذه الفنون يصنع بطريقة تجارية بحته. ورغم وجود أشكال من البريق هنا وهناك، إلا أن الاتجاه الأغلب هو مجافاة القيم الجمالية ومجافاة الأصول الفنية الرفيعة. وطبيعي أن يؤدي هذا الظرف إلى ضروب من الفوضى في عالم الإنتاج الفني، وإلى تحول المنتجات الفنية والإعلانية إلى جلبة للضوضاء وتستدعي الإزعاج أكثر مما تستدعي السعادة والبهجة. وهي في الغالب الاعم تكشف عن ضروب من التغول على المشاهدين وعلى قيمهم أيضاً (أفكر في هذا السياق في الإعلان الذي يحمل فيه بطل الإعلان علبة جبنة فيفرض بها قانونه الخاص في المقهى والسينما بما يحمله من دلالة علي تغول رأس المال وعدم اهتمامه بقوانين الاجتماع الإنساني) ولقد أدت الانتقادات التي وجهت إلى هذه النزعة التجارية الفنية إلى بوادر إصلاح شاهدنا بداياتها في العامين الماضيين، ولكن ثمة شعوراً بأن الجمال ينزوي إلى ساحة الظل، وبأن الفن الذي تنتجه إليه الطبقة الوسطى لا يقوم بدوره في تنمية ذائقة الجمال وتطويرها.
وقد يدعونا ذلك إلى التعريج على القصور الكبير في عملية بناء الذائقة الجمالية وتربيتها في التعليم الذي تنتجه الطبقة الوسطى، خاصة في التعليم قبل الجامعي. لن اتحدث هنا عن تشظي التعليم، وتنوع مساراته وأهدافه (فتلك قصة أخرى لها وقفة خاصة) ولكن أود الإشارة إلى التحول الكبير الذي حدث في نموذج التعليم المصري، وهو تحول يفصل عملية بناء المعلومات والمعارف والمهارات عن عملية بناء الشخصية وتكوين العقل الناقد والذائقة الجمالية. وافترض هنا – واتمنى أن يكون افتراضي خاطئاً – أن الطبقة الوسطى (سياسة وإدارة وتنفيذاً) قد أخفقت في إدراك خطرين كبيرين في نمط التعليم الذي أدارته خلال الحقب الأربعة المنصرمة: الأول أن هذا النمط التربوي هو خطر على بناء الطبقة نفسها والتي يعتبر التعليم هو معولها الرئيسي، فاذا فقدته فقدت طريقها؛ والثاني أن هذا النمط هو أكثر الأنماط التربوية تخليقاً للتطرف والغلو. فالعقل الذي لا يتذوق الجمال والذي لا تمكنه إمكاناته النقدية من تمييز "الحابل من النابل" هو تربه خصبة للأفكار المتطرفة.
لقد أدى المسار الطبقي الوسيط صاحب المسئولية الأولى في حداثة المجتمع إلى أن تتجه هذه الحداثة في العقود الأربعة الماضية إلى توسيع حقول وتضييق حقول أخرى. ولقد كان الحقل الثقافي والفكري من أكثر الحقول التي ضاقت. وإذا كانت تلك الأخيرة هي المنتجة للجمال وذائقته، فإن ضيقها يجعل قيمة الجمال باهتة في الحياة.
نكمل في المقال القادم...

التعليقات