الناقد مجدي الطيب : حاكموا من يحرمنا الفرجة على هذه الافلام ..

 جرت العادة أن يُقتل الفيلم بحثاً، عقب انتهاء مشاهدته، على صعيد الفكرة، والقضية، والتقنية، إلا أن الأمر يبدو مختلفاً، في حال فيلم «جولة أخرى»، الذي لا تكاد تفرغ من مشاهدته، حتى تسأل نفسك، غاضباً : «ما دامت هناك سينما، أوروبية وآسيوية، مغايرة، التسلية ليست همها، وتصدير «البطل الخارق» ليس شاغلها .. سينما تُخاطب ذهنية مغايرة، وتستحضر الواقع الحقيقي، مثلما تُعنى بهموم، وخفايا، البشر والمجتمع، وترتقي بالفن، والمُتلقي معاً؛ فمن المسئول عن حرماننا منها، وتغييبها، وإفساد ذائقة الجمهور، عن عمد، من أجل تكريس سينما أمريكية قوامها الدعاية، التضليل، التشويه والإبهار فارغ المحتوى» ؟!
«جولة أخرى» (الدنمارك / السويد / هولندا)، هو الفيلم الذي أختير للمشاركة في قائمة أفلام الاختيار الرسمى للدورة ال73 لمهرجان "كان" السينمائي، التي كان من المقرر عقدها في الفترة من 12 إلى 23 مايو 2020، قبل إلغائها، بسبب جائحة كورونا، ليُعرض، لأول مرة في العالم، في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي بكندا، ثم مهرجان سان سباستيان السينمائي الدولي، في اسبانيا، كما أختير لافتتاح مهرجان الأفلام البلجيكية، وفاز مخرجه الدنماركي توماس فينتربرج، مع توبياس ليندهولم، بجائزة الفيلم الأوروبي لأفضل كاتب سيناريو، كما فاز بطله مادس ميكلسن بجائزة الفيلم الأوروبي لأفضل ممثل.
فكرة أخاذة
ينتمي فيلم «جولة أخرى» (117 دقيقة)، إلى سينما أقرب إلى الدراسات التحليلية، أو الأبحاث الاستقصائية، التي تُجريها مراكز البحث العلمي على الظواهر الإنسانية والإجتماعية، لكنها تنأى بنفسها عن التعقيد، وجفاف  المادة العلمية، لتقدم سينما جريئة، في فكرتها، ممتعة، في مضمونها، أخاذة، في لغتها البصرية، لكنك لن تجدها في صالات العرض، التي تستولي عليها الأفلام الأمريكية؛ فنحن في الفيلم برفقة حميمية مع أصدقاء العُمر الأربعة : «مارتن» / مادس ميكيلسن، «تومي» / توماس بو لارسن، «نيكولاي» / ماجنوس ميلانج و«بيتر» / لارس رانث، الذين يعملون في مدرسة واحدة، ويحتفلون بالعيد الأربعين لميلاد «نيكولاي»، الذي يُبدي حماسة كبيرة لنظرية العالم النفسي النرويجي «فين سكارديرود»، الذي يؤمن أن البشر يولدون بنسبة كحول، لاتتجاوز 05ر0 % في الدم، ومن ثم فإن كأس أو اثنتين من الكحول، لا يتسببان في أي ضرر، بل سيجعلان الإنسان أكثر استرخاءً، واتزاناً، وانسجاماً، وانفتاحاً، وشجاعة، وثقة بالنفس، وارتفاعا للمعنويات، وبينما يرفض إثنين مجاراة «نيكولاي» في قناعاته، يلقى الكلام هوى لدى «مارتن»، الذي يعاني متاعب جمة مع زوجته «أنيكا» (ماريا بونيف)، المشغولة عنه بنوبات عملها الليلي، ولاتجد فيه الرجل الذي التقته لأول مرة، بالإضافة إلى مشاكله اليومية مع تلاميذه المتنمرين، غير المتحمسين، الذين يستهينون به، وطلبوا من آبائهم تغييره، لكنه لا يؤمن بأنهم «اطفال يستحقون العقاب، والركل في المؤخرة، كنصيحة الأصدقاء، الذين يلومونه؛ لأنه لا يدفنهم بالأعمال، والواجبات، المنزلية، ويفاجئهم بالاختبارات، وتغيير المناهج والصدمات»، ويتجه للعمل بالنظرية، ويتعاطي، بالفعل، القليل من الكحول، أثناء العمل في المدرسة نهاراً ! 
الطريف، والمواقف الطريفة، والممتعة، كثيرة في الفيلم، أن حياة «مارتن» تغيرت بالفعل، ليس فقط على صعيد علاقته بزوجته، وولديه، بل، وهذا هو الأهم، بتلاميذه؛ فالأخذ بالنظرية، وتعاطيه جُرعة من الشراب، قبل دخوله الفصل الدراسي،  جعله شجاعاً، لا يفتقر إلى الثقة بالنفس، مُبدعاً في شرح مادة التاريخ، وتوصيل المعلومة، وقادراً على الاستحواذ على التلاميذ، ممن وجدوا دروسه شيقة وممتعة. وحيال نجاح تجربته، اجتمع الأصدقاء، في منزل «تومي»، وقرروا تعاطي الكحول، خلال ساعات العمل بالمدرسة، ورصد نتائج التجربة، في تدوينة تسجل ملاحظاتهم اليومية، على أن يتم تجميعها في  مقال / دراسة نفسية، حول فرضية العالم النفسي النرويجي، ودعم الدراسة بالأدلة النفسية، والتأثيرات الحركية اللفظية، والنفسية البلاغية، ومدى إسهامها في زيادة الأداء الإجتماعي والمهني، وهو ما جعل «بيتر» يصرخ فرحاً : «لم أدَرس جيداُ كهذا منذ عصور» !
الإدمان المشروط !
الأكثر طرافة أن الأصدقاء الأربعة وضعوا قواعد صارمة للتعاطي خلال ساعات العمل؛ على رأسها : عدم الإفراط في الشراب، وحظر الشرب في عطلة نهاية الأسبوع، مُقتدين في هذا بالأديب العالمي الشهير «أرنست همنجواي»، الذي كان يشرب يومياً حتى الثامنة مساءً، ثم يتوقف لكى يكون قادراً على العمل في اليوم التالي، ويشهد الجميع بأنه كان مُبدعاً بحق؛ فالاستشهاد بالعظماء، والخالدين، من المشاهير، الذين كان الكحول سبباً في نجاحاتهم، أضفى على المعالجة واقعية، وأكسب النظرية مصداقية؛ فقد تألق «مارتن» لأنه لم يترك درساً من دون أن يربطه بالسكارى، كما فعل، في مشهد الحديث عن مواصفات «الرئيس المُنتخب» فسارع التلاميذ باختيار «الملتزم»، الذي لا يُدخن، ولا يتعاطى الخمر، وفاجأهم بأنهم بذلك اختاروا الطاغية «هتلر»، الذي دمر العالم، وتجاهلوا «روزفلت»، الذي قاد أمريكا، في سنوات الكساد، والحرب العالمية الثانية، ويُصنف واحداً من أعظم ثلاثة رؤساء أمريكيين، إلى جانب جورج واشنطن وإبراهام لينكولن، ورغم هذا لم يُفارق يديه كأس الخمر، والسيجار، وطالبهم بألا تحدعهم المظاهر، وهو ما تكرر في درس اختيار الشخصية الأعظم، من بين : همنجواي وتشرشل وجرانت، منوهاً إلى أن تشرشل، السكير، ألف 37 كتاب، في 58 مجلد، ورسم أكثر من 500 لوحة، وكسب جائزة نوبل  في الأدب، وربح الحرب العالمية الثانية، ونُظر إليه بوصفه واحداً من أعظم قادة العالم. وعلى النهج نفسه استدعى «نيكولاي» أنموذج عازف البيانو الموهوب، كلاوس هيرفرد، الذي لم يكن بامكانه العزف، إلا عند النقطة مابين كونه ليس في حالة سُكر ولا متيقظاً . وفي جملة حوار عبقرية يلخص «نيكولاي» الموقف بقوله : «لا تخجلوا وانتم سكارى وتذكروا أن لكم صحبة»، وينفي اتهامهم بأنهم مدمنون قائلاً :«نحن نتحكم متى نريد ان نشرب، والمدمن لا يمكنه التحكم بنفسه» !
يُشع بالعنفوان ويتدفق بالحيوية 
فيلم يُشع بالحيوية (المزج بين الوثائقي والدرامي عبر الاستعانة بوثائق لرؤساء العالم : نيكسون، بريجنيف، يلتسن، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بوريس جونسون، رئيس وزراء بريطانيا، أيمانويل ماكرون، رئيس وزراء فرنسا، وهم يتعاطون الخمر، في لحظات تاريخية مشهودة)، ويتدفق بالطرافة ( طفل يطلب رشفة ماء من القارورة التي خبأ فيها «تومي» الخمر / تسوق الأبطال وهم سكارى)، والتأسي على عنفوان الشباب، وغياب الطموح ليحل محله الإحباط، وهو ما يؤكده السؤال الذي يبدأ به الفيلم : «ما هو الشباب ؟ حلم . وما هو الحب؟ محتوى الحلم»، وأغنية النهاية، التي أعادت «مارتن» إلى الرقص الذي هجره طويلاً، ومست القلوب، بكلماتها العذبة : «يالها من حياة .. يا لها من ليلة .. يالها من رحلة جميلة»؛ فنحن لسنا بصدد فيلم وعظي، إرشادي، أو أخلاقي تلقيني، عن أضرار تعاطي الكحوليات، والروابط الأسرية، التي تنهار بسبب إدمان الخمر، وإن بدا كذلك ( إنهاء الدراسة بحجة الأثار الاجتماعية السلبية الهائلة للإدمان، وانتحار أحد الأصدقاء)، لكنه فيلم إنساني، لا يخلو من شجن، يبعث على التفاؤل، ويُعيد الثقة لدى المُحبطين (الطفل الذي يرتدي النظارة، وينبذه رفاقه ومدرس علم النفس والطالب "سيباستيان")، مثلما يُثمن الروابط العائلية، والمجتمعية، فضلاً عن الروح الوطنية، التي بثها، برقة وذكاء، عبر أغاني التلاميذ، والأطفال، والثقافة المحلية، التي تنبعث في أجواء الفيلم، والأهم أنه يُجدد العهد مع الحياة، وأنه لم يفت الأوان؛ فمازالت هناك «جولة أخرى» (عنوان الفيلم)، وموعد مع البهجة، واستعادة الحب (عودة مارتن إلى زوجته)، والأمل في المستقبل (احتفالات الطلبة بالتخرج في ناقلات تجوب المدينة). وإذا كانت الإشادة واجبة بموهبة المخرج توماس فنتربيرج، وبراعته في توظيف الكاميرا، وتأرجحها بين الثبات والحركة، وتلوين الصورة، حسب الحالة الدرامية، للمواقف والأشخاص، فالتنويه ضروري بالسيناريو، ببنائه القوي، وطريقة سرده الشيقة، والأداء العبقري للممثل الموهوب مادس ميكلسن، والإهداء، الذي أثار الكثير من الشجن، وكرس جرعة الألم، عندما اختار المخرج أن يهدي الفيلم إلى «أيدا»، ابنته، التي فارقت الحياة في حادث سيارة أثناء تصوير الفيلم «التحفة» .

عن جريدة القاهرة 

 

 

 

 

التعليقات