عاشق الروح (1)

أخيرا تحققت أمنية الشاعر حسين السيد بصدور الجزء الأول من أعماله الشعرية في ديوان عن هيئة الكتاب، بعد 38 سنة من غيابه، إذ تحل ذكرى وفاته في فبراير المقبل.. وقد بذلت ابنته الصغرى الدكتورة حامدة جهدًا واضحًا في عمل لا يقوى عليه أحد بمفرده.

فحسين السيد صاحب الألف أغنية، والحاضر في حياة الملحنين والمطربين الكبار لأكثر من أربعين عامًا، هي العقود الأكثر قوة وتأثيرا في الغناء في مصر والعالم العربي.

ولا يعرف أهمية الديوان للراحل الكبير سوى الأصدقاء المقربين الذين ربما فاتحهم بتلك الرغبة.

كنت صديقًا للشاعر الكبير، تعرفت عليه في ندوة بـ وكالة الغوري في أواخر عام 1980، كنت في فترة التجنيد، وكنت أعد نفسي لأكون كاتبا صحفيا باعتبار الصحافة هي المهنة الأقرب للأدب.

كانت الندوة مسجلة في الإذاعة، أظن " صوت العرب " وكنت بين الجمهور وطلبت مداخلة، وجاءت عصبية، بسبب صغر سني، وربما طال الحديث موضوعات عن الرواد والأساتذة والشباب وغياب الفرص.

إلى هذا الحد كانت المداخلة عظيمة الفائدة لي؛ لأنني تلقيت على أثر إذاعة الندوة اتصالا هاتفيا من بلدة أبي قرية "الصنافين" مركز منيا القمح شرقية، وكذلك فإنه بنهاية الندوة، والشاعر الكبير يمضي في طريقه بين صفوف الحاضرين، توقف وصافحني، وتبادل معي حديثا وديًا، وطلبت رقم تليفونه. بعد أيام اتصلت به، وزرته في مكتبه في شارع صبري أبو علم في وسط البلد.

استقبلني مرات، وفي كثير من تلك المرات كان يصحبني زملاء وأصدقاء عندما يعلمون أنني سأزور حسين السيد، مأخوذين بتأثير أغانيه الكاسح والتي يعشقونها ويرتبطون معها وجدانيا، ونجلس مع الشاعر بعض الوقت، يحكي لنا ونسأله بشغف وحب استطلاع عن أسرار هذه الأغاني. وكنت أتحدث معه كثيرا، وأسأله عن تفاصيل علاقته بالموسيقار محمد عبد الوهاب، و أم كلثوم ، وعبد الحليم، ونجاة، وفايزة أحمد، ووردة.. وغيرهم.

سألته ذات مرة عن سبب ارتباطه المبكر بالشعر، فقال لي إن ممارسة كتابة الشعر لا تحتاج إلى أي حدث اجتماعي أو تجربة ذاتية وإنما شأنه في البداية شأن كل فن من الفنون يطلق موهبة ما وفي مرحلة مبكرة.

هكذا حسين السيد، انطلقت موهبته مبكرا، هو الذي كان بوسعه أن يحول أي موضوع أو قصة تخصه أو ترجع إلى صديق أو أحد أفراد الأسرة إلى حالة شعرية. وتحدثت إليه كثيرا لكي يعود بذكرياته إلى بداياته، حيث القراءة والتكوين ومنبع نهر الموهبة، حتى قبل أن يقترب من الوسط الفني، محاولاً التمثيل أولاً، ثم كتابة الأغاني.

قال لي إنه يكتب الشعر منذ شبابه المبكر، تجارب أولية، وإنه أتم دراسته الثانوية بمدارس الفرير الفرنسية وكانوا يدرسون "الآداب" باللغتين العربية والفرنسية، وكان يقبل عليها بنهم دونما سبب يعلمه، ووجد نفسه يشتري "أوراق الورد" للرافعي و"تحت ظلال الزيزفون" للمنفلوطي، كما قرأ مبكرًا في كتب الشعر القديم وشعر الإحياء الذي قاده البارودي وشوقي وحافظ. كل ذلك وهو بعد في المدرسة، يحتفظ ببعض هذه الكتب في البيت وفي شنطة المدرسة، وكانت تسعفه في التغلب على ملل حصة الحساب بالذات، حيث ينظر لها باعتبارها المتنفس الوحيد للقراءة.

حدثني عن تجربته في التمثيل، ورغبته في أداء الأدوار الرومانسية، لكنه عثر في كواليس فيلم "يوم سعيد" الذي كان يطلب وجوهًا جديدة على طريق آخر. فقد تعرف على الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي كان يطلب أغنية ليدعم موقفًا معينًا في الفيلم، وكتبها حسين السيد "أجري أجري أجري"، ولم يفترقا أبدًا.. لكنه عبد الوهاب أيضا الذي لم يسع إلى وضع كلمات حسين السيد على حنجرة أم كلثوم ..

هكذا شعرت من حكايات الشاعر الراحل معي، بأن عبد الوهاب هو وراء عدم غناء أم كلثوم له، في أكثر من محاولة، وأن هذا الأمر أزعجه، لكنه لم يصل به إلى حد الغضب أو القطيعة.. فحسين السيد رجل قدري جدا، ولا يسعى إلى خسارة أحد، إذ ينظر في حياته ونفسه ليجد الرضا التام عنها والاستسلام لتصاريف القدر.. ابتداء من تعليمه العالي الذي لم يكتمل، ورغبته في التمثيل التي لم تتحقق، وخسارته في العمل التجاري الذي ورثه عن أبيه..

لم يكن ارتباط حسين السيد بعبد الوهاب سوى نموذج متكرر لثنائيات مهمة في تاريخ الغناء المعاصر في مصر، هو نوع من الكيمياء بين كاتب أغاني وملحن، بين بيرم التونسي وزكريا أحمد، أحمد رامي ورياض السنباطي، أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، ثم بين عبد الوهاب نفسه وأحمد شفيق كامل... وغيرهم.

ورغم ذلك كان حسين السيد يظل حاضرا في ألحان موسيقيين ومطربين آخرين.. وفي تصوري أن أكثر ما جذب المحبين لمدرسته في الكتابة هو أغنياته القصصية أو الحكائية، التي لا تترك الأغنية معلقة في السراب، إنما قصة وتكتمل، حكاية ولها بداية ونهاية. وقد برع أكثر من غيره من كتاب الأغاني في إيصال العاشق إلى بر حتى لو كان مأساويا، على ندرة المأساة والفراق، وكثافة الأمل والحلم في شعر حسين السيد..

التعليقات