الغرب.. ووجع القلب

كان «سيد قطب» شاباً من ضمن آلاف الشباب الذين وفدوا من صعيد مصر إلى القاهرة، يدفعه حلم بتحقيق نجاح يشبه نجاح العملاقين عباس محمود العقاد وطه حسين، حين بزغ نجمهما كأديبين بارعين وناقدين بارزين. امتلك «قطب» الموهبة التى تمكّنه من النجاح كناقد، لكنه لم ينجح كأديب. وكتاباته النقدية تشهد على براعته فى هذا المضمار، وقد كان أول ناقد عربى ينوه بموهبة نجيب محفوظ ويتنبّأ له بالحصول على جائزة نوبل.

تملّك سيد قطب منذ نعومة أظافره إحساساً بـ«التفرّد»، انخرط فى صالون العقاد، وكان واحداً من أبرز نجومه، وأبرع تلامذة العملاق الكبير قدرة على شرح أفكاره، لكنه لم يرَ نفسه أقل قيمة من «العقاد»، ولم يشك فى جدارته بأن يكون رائد مدرسة فكرية يصطف على بابها التلاميذ، ويجلس بداخلها حواريوه مُنصتين إلى ما يخرج على لسانه.

بدا سيد قطب متفرّداً فقط حين اتّجه إلى الكتابات الإسلامية، فقدم كتابه «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» وكتاب «التصوير الفنى فى القرآن الكريم» و«مشاهد القيامة فى القرآن» وغيرها. وقد تزامن هذا التوجّه من جانب سيد قطب مع رحلته الشهيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

يردّد المصريون أن «الغرب لا تأتى منه أشياء تسر القلب». فموقفهم من الغرب ودوله جوهره تجربتهم المريرة مع الاستعمار. أوائل القرن التاسع عشر كان المصريون ينظرون إلى الغرب كأمل يحلمون بالوصول إلى ما وصل إليهم من علم وتطور وتنور. تمثل دور رفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وغيرهما بالاجتهاد فى توطين إيجابيات الغرب داخل البيئة المصرية، لكن هذا الموقف اختلف بعد الاحتلال الإنجليزى عام 1882، إذ بات الغرب تحدياً وجندياً من جنود إبليس يريد استنزاف ثروات المصريين وتدمير ثقافتهم وهويتهم الخاصة.

شاءت الأقدار أن تأتى تجربة سيد قطب فى الاحتكاك بالغرب -فى نسخته الأمريكية- بعد أسابيع قليلة من نكبة 1948، والتى اعتبرها المصريون والعرب أكبر صفعة وجّهها الغرب لهم، والتى لعبت فيها الولايات المتحدة الأمريكية الدور الأهم بعد أن بادرت إلى الاعتراف بدولة إسرائيل بمجرد إعلانها، ومن ورائها الكثير من الدول الأوروبية.

يقول مؤلف كتاب «البروج المشيدة»: «بعد موافقة الرئيس الأمريكى ترومان على نقل 100 ألف لاجئ يهودى إلى فلسطين، كتب سيد قطب: كم ذا أكره الغربيين وأحتقرهم، كلهم جميعاً بلا استثناء، الإنجليز، والفرنسيين، والهولنديين، وأخيراً الأمريكان الذين كانوا موضع ثقة من الكثيرين».

وغالباً ما تؤدى الكراهية إلى الانغلاق والتفتيش فى عورات الآخر، وهو ما حدث مع سيد قطب. فانطلق قلمه يصف ما رآه من مثالب وسلبيات المجتمع الأمريكى، فتحدّث عن سيطرة الآلة على الحياة الأمريكية، والمادية الغالبة على كل شىء فى حياة الأمريكيين، والانهيار الأخلاقى الذى يعانون منه فى المراقص والملاهى، وتبلد الإحساس أمام فكرة الموت وغير ذلك.

عاد «سيد قطب» من الولايات المتحدة الأمريكية بغير الوجه الذى ذهب به، وفوجئ بأن يرى مصر على غير الوجه الذى تركه عليها، حيث تسللت القيم الأمريكية إلى الكثير من مناحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية.

لحظتها قرر «قطب» أن يتحدى الجميع. الضعيف المهزوم الذى يحرّكه إحساس بالغبن تنطوى أجنحته على ذات مدمرة. وعندما تتحرّك هذه الذات نحو الآخر، فإنها تتحول إلى آلة دمار شامل.

 

التعليقات