القاهرة ـ الخرطوم رايح جاي

أن تستقل قطارًا من محطة مصر في القاهرة يحملك إلى  الخرطوم هو حلم صعب ولكنه ليس مستحيلاً.. وهذا الحلم قديم، كما أنه فوق كل مائدة مباحثات بين الحكومتين المصرية والسودانية، حتى تلك الأخيرة في 15 أغسطس الماضي.


ولقد انتهى اجتماع رئيسي وزراء البلدين في الخرطوم بجملة قرارات مهمة، في ملفات عدة، على رأسها ملف السكك الحديدية التي تربط بين البلدين، وساعد في التوصل إلى تلك القرارات انقشاع سحابات الغيوم التي غطت العلاقات خلال الحكم المراوغ للرئيس السوداني السابق، وقبل الاجتماع كان التقارب الواضح في مواقف البلدين خلال مفاوضات سد النهضة ، التقارب الغائب أيام البشير، لدرجة الانحياز المفضوح، خصوصا أن أي ضرر لمصر من القرارات الأحادية في أزمة سد النهضة يصيب السودان بقدر ما يصيب مصر، لكن الحكم السابق في السودان فضل التضحية بمستقبل البلد لصالح تحالفات مشبوهة وضارة به وبجيرانه العرب وعلى رأسهم الجارة الشمالية مصر.

ولا أظن أن حكومتين في العالم تملكان آليات تعاون ورصيد اتفاقيات ثنائية يفوق ما لدى مصر والسودان خلال الستين عامًا الماضية.. ولست في مجال حصر الاتفاقيات والمعاهدات ومذكرات التفاهم التي لا تعد ولا تحصى، لكن هذه الكثرة تعطي فكرة عن مدى عمق العلاقات ومدى استعداد البلدين للتعاون، وعلى الأرجح ومع الإرادة السياسية المتوافرة في البلدين هذه المرة، فإنه يمكن تنفيذ كل أو معظم ما جرى التوقيع عليه لخدمة مصالح الشعبين، وليست لدى أي حكومة منهما ديون لدى أي طرف، فهما نتاج ثورتين مجيدتين، وليس عليهما أية فواتير تستوجب السداد سوى للشعبين.

ولاحظت أن الجانبين ركزا في المحادثات الأخيرة في الخرطوم أو جددا التزامهما بتعزيز التبادل التجاري بينهما، وتم الاتفاق على وضع خطة عمل لتذليل العقبات التي تعترض انسياب الحركة التجارية لاسيما ما يتعلق بطرق النقل المؤدية للمنافذ البرية.

وتناول الجانبان سبل تطوير التعاون في مجال النقل ، واتفقا على إعادة هيكلة هيئة وادي النيل للملاحة النهرية ، ورفع قدرتها التنافسية، وتطوير التعاون في الملاحة البحرية والاستفادة من مواني البلدين على البحر الأحمر، وتحديث اتفاقية التعاون الخاصة بالنقل البري الموقعة بين البلدين وإضافة التعديلات المطلوبة بغرض تحسين الخدمات، كما بحث الجانبان مشروع ربط السكك الحديدية بين البلدين، بما يسهم في فتح آفاق أرحب للتعاون الاقتصادي والتجاري بينهما.

ولدينا مشروع ربط كهربائي بقدرة 70 ميجاوات ويجرى العمل للوصول إلى 300 ميجاوات، وتم الاتفاق على الالتزام بالإطار الزمني المحدد من جانب الفنيين للانتهاء من التجهيزات اللازمة للشبكة السودانية والتي يعمل الجانب المصري على توفيرها.

وبين البلدين أيضا خط بري أو طرق برية ونهرية لكن السكك الحديدية شيء آخر، وقد كان الخط الحديدي موجودا قبل مائة عام، بين القاهرة و الخرطوم عبر وادي حلفا، حيث يمكن للمسافر تبديل القطار الذي كان يخدم بالأساس الجيش الإنجليزي، لكن الاحتلال الإنجليزي كان واعيًا بخطورة القطار وتسهيل حركة الشعبين باستخدامه، فغير المسافة ما بين القضيبين المتوازيين الذين يسير فوقهما القطار، حيث هي قريبة من متر ونصف في عموم بر مصر، ومتر و20 سنتيمتر في خطوط السودان، لكن يمكن التغلب على هذه المشكلة بطرق كثيرة، على الأقل، جعل محطة وادي حلفا تبادلية كما كانت في الماضي، ربما يصحح لي أحد معلومة المسافة ما بين القضيبين هنا أو هناك، لأنني قست المسافة تحت عربة قطار يقف أمام متحف السكة الحديد في محطة مصر ، والذي كان مغلقا لأنه يعمل من التاسعة صباحا إلى الثانية ظهرا فقط، ولا أعرف لمن تخدم هذه المواعيد التي لا تتناسب مع أي متحف في العالم.

قطار القاهرة الخرطوم كان محل بحث في كل المحادثات بين البلدين، وأتذكر أنني بدأت متابعته في السبعينيات مع اتفاقات التكامل الاقتصادي الأولى (منهاج العمل السياسي والتكامل الاقتصادي الذي وقعه الرئيسان أنور السادات وجعفر نميري بالإسكندرية في 11 فبراير 1974) وكان في الخرطوم وزير لشئون مصر وفي القاهرة وزير لشئون السودان.. وتتالت الاجتماعات الوزارية واللجان الفنية، ثم جاء ذكر السكك الحديدية بالتفصيل في اجتماعات سنة 1979.

في 1979 اتفقت الحكومتان على إنشاء خط للسكك الحديدية بالبلدين طوله 502 كم وتكاليفه الاستثمارية 200 مليون جنيه (الدولار الأمريكي بـ70 قرشا)، ويقع من الخط الحديدي 450 كم في الأراضي المصرية تكاليفها 180 مليون جنيه ويقع من الخط الحديدي 52 كم بالأراضي السودانية تكاليفها 20 مليون جنيه.

إن أهم ملف تعاون مصري - سوداني بعد سد النهضة هو ملف النقل، واخترع السودانيون والمصريون قديما درب الأربعين، رحلة أو قافلة الجمال الشاقة والمهلكة التي تستغرق أربعين يوما من السودان حتى تصل إلى الجيزة.. والآن يعانون من الرحلة هم وبضائعهم عبر القطارات والمراكب والمعديات والطرق البرية.

قطار القاهرة الخرطوم رايح جاي يمكنه أن يخفف الكثير من المعاناة.. ويمهد لقطار إفريقي حقيقي يربط شمال القارة بجنوبها.

التعليقات