أيام مع نجيب محفوظ (13)

استغربت بشدة محاولة جماعة المركز الإسلامي للثقافة والتعليم في أوبسالا بشمالي السويد أن تكون في المشهد يوم إلقاء كلمة الأستاذ نجيب محفوظ في احتفال الأكاديمية السويدية، يوم الخميس 8 ديسمبر 1988.
ويبدو أنها أرادت ذلك، ووزع أفراد منها علينا في الحفل نسخًا من مجلته "الهجرة"، حيث كتب محررها أنها كانت من الأسباب التي أدت إلى قرار لجنة نوبل الذي تأخر عن وقته كثيرا.

وفي حيثيات القرار جاءت رواية " أولاد حارتنا " التي كفرتها الجماعة الإسلامية في مصر، ثم بعد ست سنوات ستأتي محاولة اغتيال محفوظ بسبب تلك الرواية بالذات.

وقبل إلقاء كلمة محفوظ، جلسنا مع السكرتير الدائم للأكاديمية وعضو لجنة الأدب ستوري آلين، ولم يرد على سؤال شغلنا كثيرا بخصوص الجهة التي رشحت نجيب محفوظ .. وقال إنها من الضروري أن تكون جهة علمية، أو شخصا ذا مكانة، ولكن الأكاديمية لا تلتفت لترشيحات الدول، ولا لمن يتقدم بترشيح نفسه، هذا لا يتيح له أبدًا إدراج اسمه بقوائم الترشيح.

وقال لي ستوري آلين إن نجيب محفوظ كان ينبغي أن يحصل على الجائزة منذ 20 عاما على الأقل، لأنه لا يوجد من هو في مستوى نجيب محفوظ خلال العشرين سنة الأخيرة. واعتبر في تصريح خاص نشرته في موضوع تغطيتي للاحتفال بمجلة "المصور" أن: "عدم المعرفة الواسعة في الغرب ل نجيب محفوظ ليس مشكلة الكاتب الكبير ولكنها مشكلة الثقافة الغربية"..

وسألت سكرتير الأكاديمية لماذا وجه كلمة لإسرائيل يوم إعلان فوز محفوظ بالجائزة، فقال إنه لم يوجه كلمة، وإنما صرح بأن "الجائزة بعيدة عن السياسة، وأنها تُمنح للقيمة الإنسانية في الأدب، وأن على إسرائيل أو غير إسرائيل فهم ذلك، ولماذا ربط الجائزة بالسياسة، هذا غير صحيح"..

لكن في تقديري أن الجائزة ليست بعيدة بالكامل عن السياسة، فالشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي التقيناه بالمصادفة في استكهولم، كان يستحق نوبل.. وهو الشاعر العربي الفذ، لكنه رحل عن عالمنا، ولم يكن ممكنًا أن يفوز بها في كل الأحوال بسبب نضاله الوطني، كما لا يمكن لأحد الذهاب بعيدًا ولا لجنة نوبل نفسها لدرجة حصول شاعر فلسطيني عليها، ليذهب إلى منصة نوبل ليتحدث عن الوطن السليب!. كذلك أدونيس يستحقها الآن، وكل هذه أحكام خاصة بي، بينما كشفت تقارير عدة في السنوات الماضية عن أن توفيق الحكيم رُشح للجائزة.

وكاد طه حسين أن يحصل عليها فعلاً في عام 1949، لولا تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولي، وقررت لجنة نوبل تأجيل إعلان الفوز بجائزة الأدب في ذلك العام، لعدم توافر الشروط المطلوبة في أي من المرشحين الخمسة لها، ومن بينهم طه حسين، ثم أعُلن لاحقًا فوز الروائي الأمريكي ويليام فوكنر.. ولكن ظل أسم طه حسين على قوائم الترشح حتى عام 1964، كما رُشح للجائزة يوسف إدريس، وسمعنا في السويد اسم نوال السعداوي..
أما محفوظ فلقد ظلت أسئلة تناوشني حول ما وراء الترشيح وطريقته ومن ساهم فيه، حتى جاء وقت كلمة نجيب محفوظ التي ألقاها الأستاذ سلماوي فقمنا إلى القاعة..

ألقى الأستاذ سلماوي كلمة الكاتب الكبير نجيب محفوظ باللغة العربية أولأ، بناء على طلب محفوظ أن تُسمع "العربية" في مقر الأكاديمية السويدية، ثم بالإنجليزية، وكان سلماوي هو الذي ترجم الكلمة إلى الانجليزية، وقال لي إنه استغرق في ترجمتها عشرة أيام كاملة، وهي التي باتت النسخة الرسمية في أرشيف الاكاديمية..

وبعد أن شكر محفوظ الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل قال: "اسمحوا لي بأن أقدم لكم نفسى بالموضوعية التي تتيحها الطبيعة البشرية، أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهي الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهي الحضارة الإسلامية".

وبالتأكيد كانت هذه الجملة هي الأكثر تعبيرا عن نجيب محفوظ وثقافته وفلسفته، وتلخص معني حياته، هو الذي بدأ مشروعه الروائي بثلاثة أعمال فرعونية (عبث الاقدار، رادوبيس، وكفاح طيبة)، ثم استدار لواقعنا المعاش ليكتب بقية أعماله.

وفي كلمته القصيرة (استغرق الأستاذ سلماوي في قراءتها 15 دقيقة فقط حتى عُدت الأكثر اختصارا في تاريخ الجائزة) طاف بإنجازات الحضارة الفرعونية بشكل قصصي بارع، مذكرا بسيرة الملك النبي اخناتون. وذلك قبل أن يعرج على "الحضارة الاسلامية التي تنهض على الحرية والمساواة والتسامح"، وعن عظمة رسولها "فمن مفكريكم من كرسه كأعظم رجل في تاريخ البشرية" (في إشارة إلى كتاب "الخالدون مائة" تأليف عالم الفلك الأمريكي مايكل هارت الذي ترجمه أنيس منصور في السبعينيات) و"فتوحاتها التي غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوي والخير".

ثم تحدث عن العالم الثالث والديون والمجاعات والتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا وعن حقوق الإنسان، وعن معاناة الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة رغم أنهم "يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم، ويطالبون بوضع مناسب يعترف لهم به"، فكان "جزاء هبتهم الباسلة النبيلة رجالا ونساء وشبانا وأطفالا تكسيرا للعظام وقتلا بالرصاص وهدما للمنازل وتعذيبا في السجون والمعتقلات" في إشارة إلى الانتفاضة. أما المثقفون فعليهم "أن ينشطوا لتطهير البيئة من التلوث الأخلاقي".

و نجيب محفوظ بخلاف رواياته قاص بارع، وفي إبداعه لا زيادات غير ضرورية، ومقدرة عالية على التكثيف ليقول للضمير الإنساني: "آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين نحن في عصر القادة المسئولين عن الكرة الأرضية. أنقذوا المستعبدين في الجنوب الإفريقي، أنقذوا الجائعين في إفريقيا، أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب" بل "أنقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحي العظيم"، و"أنقذوا المدينيين من قوانين الاقتصاد الجامدة".

وعبر محفوظ عن تفاؤله: "رغم كل ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية لا أقول مع الفيلسوف كانت إن الخير سينتصر في العالم الآخر فإنه يحرز نصرًا كل يوم، بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت، وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره".

ويختتم محفوظ كلمته ببيت الشاعر الزاهد الأكبر في العربية: "فقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال:

إن حزنا في ساعة الموت..
أضعاف سرور في ساعة الميلاد".
(الاهرام)

التعليقات