أيام مع نجيب محفوظ (12)

أمضينا اليوم الأول لنا في عاصمة السويد، أو نهار الأربعاء 7 ديسمبر 1988 في التعرف على المدينة، استقلينا المترو من "زنكن" إلى وسط استكهولم، نحو أربع محطات، وتعرفنا على أجوائها ووضعنا أقدامنا على الأرض.

في نفس الوقت أعدت مؤسسة نوبل يومًا ثقافيًا ترفيهيًا لكريمتي نجيب محفوظ: أم كلثوم وفاطمة، وبصحبتهما الأستاذ سلماوي، والفنانة نازلي مدكور، زاروا خلاله المتاحف ومعالم استكهولم الثقافية والسياحية... كانت ابنتا محفوظ قد سافرتا على نفس الطائرة مع السفير السويدي من مصر..

وفي جولتنا بالمدينة قريبًا من مقر البرلمان التقيت الشاعر الفلسطيني محمود درويش، في نادرة من نوادر الزمان، وكنت قد التقيه كثيرًا في القاهرة، وسألني ماذا تفعل هنا؟.. قلت جئنا ووفد إعلامي كبير لاستلام جائزة نوبل . سألني عن حضور نجيب محفوظ فأجبت أن نجلتيه سوف تتسلمان الجائزة، والكاتب محمد سلماوي سيلقي كلمته الرسمية في الأكاديمية السويدية. وأنت؟.. جئنا لنلتقي في مقر البرلمان مع خمسة يهود أمريكيين لتوقيع "وثيقة استكهولم" مع الأخ أبو عمار. وكان درويش وزيرا للثقافة الفلسطينية وكاتب خطب الزعيم ياسر عرفات، أو غالبيتها في ذلك الوقت، ودعاني وبعض الزملاء لحضور المؤتمر الصحفي لعرفات والشخصيات اليهودية الأمريكية بعد الظهر في البرلمان السويدي.

ووصلنا إلي مقر البرلمان ويقع على جزيرة جاملا ستان (المدينة القديمة) في الوسط من بحيرة تعد عنق الزجاجة التي تصب منها المياه العذبة القادمة من جبال النرويج إلي بحر البلطيق.

قبل أن نصل استكهولم بنحو أسبوع أقامت السويد احتفالات كبيرة بمناسبة اليوم العالمي (يوم الأمم المتحدة) للتضامن مع الشعب الفلسطيني ما يفسر أعلاما فلسطينية وصور عرفات والانتفاضة التي وجدناها في شوارع استكهولم. كان الزعيم عرفات قد وصل صباح الثلاثاء 6 ديسمبر، وبصحبته وفد من ستة أفراد بدعوة من وزير الخارجية ستين أندرسون، واستضافته الحكومة في قلعة "هاجا" المخصصة لرؤساء الدول، وأمضوا في استكهولم 34 ساعة حافلة. وأكدت الوثيقة الموقعة وجوب إقامة دولة فلسطينية مستقلة، والقبول بوجود إسرائيل كدولة في المنطقة، وإدانة جميع الأعمال الإرهابية (وهو ما شرحته باستفاضة سواء في مجلة "المصور" القاهرية، أو مانشيت جريدة "الحياة اللندنية" في صباح اليوم التالي).

وجدت الشارع السويدي متعاطفا مع الفلسطينيين وبنسبة 65% وهي نسبة معتمدة في آخر استفتاء في سبتمبر من تلك السنة. وبعد سفرعرفات بيومين (الجمعة 9 ديسمبر) حضرنا احتفالا كبيرا بذكري مرور عام على الانتفاضة..

أقام السفير المصري في السويد عبد الرحمن مرعي حفل عشاء للوفد الصحفي والإعلامي على شرف نجلتي نجيب محفوظ، وحضرت فاطمة وغابت أم كلثوم لنزلة برد ألمت بها، وخشيت أن تتفاقم ولديها مهمة قومية بعد يومين، خصوصا لبعد منزل السفير عن وسط استكهولم. وقدرها زميلنا في جريدة "الوفد" المرحوم أحمد كمال الدين بـ 50 كم، وهو كان ممن يحبون إضفاء جو من المرح والمزاح على كل جلسة أو نزهة. وكنا ذهبنا إلى العشاء مساء الأربعاء، بعدما انتهي المؤتمر الصحفي للزعيم عرفات، وتوقيع "وثيقة استكهولم"..

وكان معنا على العشاء الدكتور حمدي حسن والدكتور إبراهيم جودة، ورئيس الجمعية المصرية باستكهولم الأستاذ الفنان عبد الرحمن الخطيب، وهو الشقيق الأكبر للفنانة فايدة كامل ومطربة الأوبرا أميرة كامل والموسيقار سليمان جميل.

وقال لنا سفيرنا في السويد إن فوز محفوظ كان غير متوقع بالمرة ـ أظن يقصد مفاجأة ـ وإن كانت هناك توقعات بأن ينالها عربي بعد أن طال انتظار العرب لها. والشارع السويدي استقبل النبأ بدهشة وتساءل من هو محفوظ ولم تجد السفارة ولا السفير ما يردون به سوي الكلاشيهات المحفوظة. لم يكن هناك مطبوع واحد عن محفوظ يمكن الاعتماد عليه، وقال إن المواطنين هنا في يوم إعلان الجائزة بحثوا عن كتاب مترجم الى السويدية فلم يجدوا. وأبلغنا السفير بأنه تجري حاليًا ترجمة رواية "أولاد حارتنا" من العربية إلى السويدية عن طريق الناشر فيشر، وهو صاحب أكبر دار نشر في استوكهولم وسوف تتكلف ربع مليون كورون سويدي.

وكان أن تحدثت بشكل خاص مع السفير مرعي، فقال لي إن نجيب محفوظ قد خلق اهتماما كبيرا بمصر هنا في السويد، لم أشهده من قبل خلال فترة خدمتي (3 سنوات)، كما أنه نجح لأول مرة في تحويل انتباه المجتمع العالمي، من الاهتمام بمصر القديمة وحدها، إلى الاهتمام بمصر المعاصرة وأدبها وثقافتها الحديثة.

ولما قام الدكتور حمدي حسن في اليوم التالي (الخميس)، يوم احتفال الأكاديمية السويدية، بتعريفنا إلى رئيس قسم اللغة العربية في جامعة السويد الدكتورة شيشتين إكسيل، قالت لنا: إنها سبق وترجمت " زقاق المدق ".. ولكن يبدو أنها كانت ترجمة محدودة أو أنها نفدت. وكانت إكسيل عقب إعلان الجائزة في 13 أكتوبر قرأت في التليفزيون السويدي مقاطع من " زقاق المدق " بانفعال وتأثر فنفذت الرواية.

وقد تزايدت وتيرة حركة الترجمة لأعمال محفوظ منذ ذلك التاريخ، أو منذ إعلان الجائزة، وعرفنا ونحن هناك بترجمات أخري كـ"ثرثرة فوق النيل" و"حضرة المحترم" و"ميرامار". ولم يعد اسم محفوظ ونحن في استكهولم بعد 58 يومًا فقط من إعلان فوزه بها، وحتى تسليم الجائزة، لم يعد بحاجة إلى تبرير أو شرح وتفسير.

وطوال الأسبوع الذي أمضيناه في استكهولم فإن محفوظ كان على شاشة التليفزيون، وأذيع عشية إلقاء كلمته في الإكاديمية لقاء تليفزيوني طويل معه. وعقب تسليم الجائزة أذاعت القناة الأولي في التليفزيون السويدي (هما قناتان فقط في ذلك الوقت) سهرة عن مصر. وتوسعت الصحف السويدية في نشر الموضوعات عن حياة محفوظ وأدبه، ولم تحتج صحيفة أو جماعة ثقافية على قرار فوزه بنوبل في الأدب.

والمدهش أن جماعة إسلامية هي " المركز الإسلامي للثقافة والتعليم "، في أوبسالا شمالي السويدن أصدرت نشرة "الهجرة"، واعتبرت أن مكاتباتها وضغوطها منذ أكثر من عام: "كانت السبب في هذا القرار، أو على الأقل كانت من الأسباب التي أدت إلى هذا القرار الذي تأخر عن وقته كثيرا. والله أعلم"!!
(الاهرام)

التعليقات