رقمنة المحتوى

الرقمنة وحدها ليست الحل. هي جزء ومرحلة ليست الأولى في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الصحافة المصرية. ملف الصحافة المصرية الذي طال كل من ينتمي إليها بقدر من الضرر أخيراً يجد نفسه مطروحاً على الساحة. صحيح أن الطرح تأخر كثيراً، لكن أن تطرح حلولاً اليوم أفضل من الاستمرار في تجاهل وجود أزمة كبرى أكثر من ذلك.

عذرنا أن السنوات الثمانية الماضية كانت سنوات عجافاً وما زالت، تأرجحنا فيها من أزمة سياسية إلى كارثة إخوانية، ومنها إلى مستنقعات سلفية آخذة في التكاثر، ولا ننسى الأوضاع الاقتصادية بالغة الصعوبة، حيث الإصلاح الذي تأخر عقودًا متزامناً والأزمات المتواترة الناجمة عن الأحداث بعد يناير 2011.

رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، الأستاذ كرم جبر، يتحدث عن رقمنة، وينفي أية إغلاقات، لكن يلمح إلى اندماجات. وهذا كلام جميل وكلام معقول. لكن الخوف كل الخوف أن "ندخل بصدورنا" في مسألة الهيكلة أو التحديث أو الإنقاذ (سمها ما شئت) دون إشراك عقولنا عبر وضع خطة شاملة كاملة مصحوبة بدراسة جدوى حقيقية، لا مجال للمجاملة فيها ولا حيز لحلول غير منطقية أو غير مستدامة.

الصحافة تغيرت في مشارق الأرض ومغاربها. وسبل التعامل مع هذه التغيرات، سواء كانت استباقية أو ردّ فعل على التطورات التقنية المتلاحقة والمتسارعة اختلفت من دولة لأخرى. فلكل من دول الكوكب ظروفها وإمكاناتها ورؤاها ومتطلبات شعوبها وأولويات سكانها. هناك من الصحف من أغلق أبوابه، ومنها ما تحول إلى الرقمي المجاني منهياً عصر الورقي، وهناك من يستعد لخدمة الرقمي المدفوعة بعد فترة تهيئة.

ولدينا صحف جديدة تصدر في زمن يقال فيه إن الورقي قد انتهى، لكنه يصدر برؤية مختلفة، وبعد دراسة متأنية مخاطباً سوقاً بعينها. ومن الورقي ما ظل ورقياً لكن أصبح يوزع بالمجان على ركاب مترو الأنفاق. وتظل هناك نماذج للصحافة المحمية، حيث استمرار دعم الدولة أو أشخاص وجهات محسوبة على الدولة لإبقائها تتنفس بأجهزة التنفس الصناعي.

ماذا عنا إذن؟ لدينا مؤسسات صحفية تتجرع مرارة عقود من الفكر الميري التوريثي، حيث الأب والابن والحفيد وزوج الابنة وابن عم المدام وزوجة خال عم زوجة الجد. وفيها آلاف من العاملين بين صحافة وطباعة وإعلانات وغيرها من الماهرين والمبدعين والناجحين، لكن فيها أيضًا آلاف أخرى من أنصاف وأرباع الماهرين الذين ثقبوا قاع السفينة بالفعل بحملهم، فبدأت تغرق قبل سنوات، في ظل تجاهل أو انشغال من بأيديهم الأمر.

الأمر الذي علينا أن نحسمه الآن هو: ماذا نريد من الصحافة المصرية؟ وكم في المائة مما نريد قابل للتحقيق؟ ومن.. وكيف.. ومتى يمكن تحقيقه؟

وهنا أشير- وأنا ضمن المنظومة- أن حال الصحافة من حيث المحتوى لا يرضي الحبيب، لكنه يرضي العدو، ويسعده، ويبهجه.

الصحافة في العام الـ19 من الألفية الثالثة ليست نشرة أخبار الرئيس، والرئيس نفسه لا يريد ذلك. وهي ليست ترجمات انتقائية لما يكتب عنا في الإعلام الغربي. وليست ليًّا للحقائق وتأليفا للوقائع لتبدو متناسقة ومتوائمة والمزاج العام، وليست إعادة تدوير لما يقال نهاراً ليتم تدوينه مساءً، أو صدى صوت للكبار حتى يرضوا عن الصحفيين. كما أنها ليست نقلاً لخبر بعد الهنا بسنة.

هي عمق، وغوص، وتحليل، وتعددية، وتنوير، وانفتاح، وتثقيف، وإبداع، وأدب، وفن، وعين وقلب مفتوحان على أحداث الكوكب والكواكب المجاورة.

فهل نرقمن، وندمج ما هو بالمحتوى الموجود حالياً، فنكون أشبه بشركة المقاولات التي رصفت شارعًا، ثم هبط، وتشقق بعد شهر، أم أن المحتوى بصانعيه والقائمين عليه يحتاجون "فرمتة" وتهيئة، ثم رقمنةً وإدماجًا؟!

(مصراوي)

التعليقات