كاتب هزم الرقابة والاخوان " مجدي الطيب يكتب عن افلام وحيد حامد "

في العيد ال 75 لميلاده :
قراءة سياسية في أفلام وحيد حامد
• في «طائر الليل الحزين» هاجم مراكز القوى وفي «أرزاق يا دنيا» سخر من انفتاح السادات .. وفي «الأولة في الغرام» فضح التوريث

غريب أمر الكاتب «وحيد حامد»؛ فالمعتاد ألا يكشف المبدع عن وجهه السياسي، وتوجهه الأيديولوجي، إلا بعد مرور سنوات من تواجده على الساحة، خشية أن يُحسب على فصيل ضد آخر، لكن الحال بدا مختلفا مع ابن قرية بني قريش التابعة لمركز منيا القمح بمحافظة الشرقيّة؛ فالشاب الحاصل على ليسانس علم الإجتماع من كلية الآداب عام 1965، لم يتردد، منذ اللحظة الأولى، في تبني موقفاً جريئاً، عندما اختار أن يبدأ علاقته مع السينما بفيلم «طائر الليل الحزين» (1977)، وبدا في نظر الكثيرين، وكأنه يُشارك في حملة الهجوم، التي شجعها السادات، واستهدفت تصفية عهد عبد الناصر، في ما أصطلح على تسميته «سينما الكرنكة» وفي قول آخر «سينما مراكز القوى» !

أغلب الظن أن اختياره جر عليه الكثير من المشاكل؛ بعد ما أغضب، وأثار حفيظة، المنتمين للتيار الناصري، لمضمون الفيلم، الذي جمع بين التلميح بمذبحة القضاء، في العهد الناصري، وإهانتهم (جسد الشخصية محمود مرسي)، ووصم عصر ما قبل السادات، بأنه عصر مراكز القوى؛ بدليل أن الفيلم، الذي أخرجه يحيى العلمي، انتهى بكلمة «البداية»، بدلاً من كلمة «النهاية» التقليدية، وأهتم بمانشتات الصحف، التي تحتفي بما سُمي ثورة 15 مايو، وانتفاضة الجماهير لتأييدها، وقرار السادات بتصفية المعتقلات، انتصاراً للعدالة وسيادة القانون، بالإضافة إلى أن جلسة النطق بحكم الإعدام على الشاب «عادل عزام» (محمود عبد العزيز) تحدد لها 25 مايو 1971، أي قبل 10 أيام من ثورة التصحيح، التي أنقذت الوطن من مصير مُظلم !


لا ناصري .. ولا ساداتي
المتأمل في سيرة، ومسيرة، وحيد حامد، يُدرك تماماً أن «طائر الليل الحزين»، لم يكن إعلان كراهية بين «حامد» والعهد الناصري، بل يمكن القول إنه كان بمثابة تدشين لنهجه المنحاز للحرية، وإعلاء قيمة الفرد في مواجهة السلطة، والقهر، واهتمامه بتقديم الأعمال الاجتماعية ذات البعد السياسي، والتكريس المبكر لأسلوبه المناهض لشتى أشكال الفساد السياسي؛ بدليل أنه لم يتورع عن شن هجوم لاذع، في فيلم «أرزاق يادنيا» (1982)، على سياسة الإنفتاح "الساداتية"؛ عبر المشهد الساخر، الذي يدور بين "شيخ المنصر" (علي الشريف) والريفي مبتور الساق (نور الشريف)، الذي يرفض أن يتحول إلى متسول، فيُنهي زعيم العصابة الحوار قائلاً : «يبقى لازم عايز تخُش مشروعات الانفتاح على طول». وفي فيلم «الغول» (1983) يتواصل الهجوم على «السادات»، وانفتاحه؛ من خلال «فهمي الكاشف» (فريد شوقي)، الذي يُعد واحداً من أباطرة الإنفتاح، ويكاد يرمز للسادات نفسه؛ وهو ما يؤكده مشهد اغتياله، بواسطة الصحفي «عادل عيسى» (عادل إمام)، وقوله : «مش معقول»، التي قيل إنها آخر ما نطق به "السادات"، بالإضافة إلى طريقة إلقاء الكراسي، بواسطة رجال الأمن في بهو شركة «الكاشف»، في محاكاة طبق الأصل لما جرى في المنصة حيث قُتل «السادات» !


الخلاصة أن تلك التأويلات نجحت في منع «الغول»، بعد ما شكلت الرقابة لجنة رأت أن الفيلم «يُعد مظاهرة سياسية مضادة للنظام القائم في البلاد، ومعاداة لنظام الحكم ومؤسساته القضائية ، وإتهام بعض أجهزة الدولة بالتواطؤ مع الرأسمالية ضد مصالح الشعب، ويشجع بل يدعو إلى الثورة الدموية ضد أصحاب رؤوس الأموال» ، وأكدت أن «هذه المعانى من شأنها التأثير بطريقة سيئة على عقول الشباب وتزعزع ثقتها فى القضاء وغيره من أجهزة الدولة ، خصوصاً أن المصنف تضمن بعض المشاهد والأحداث التى تبدو وكأنها نوع من المتاجرة ببعض الأحداث المحلية المتعاقبة، والجارية، على النحو الذى يصبغه بطابع سياسى على جانب كبير من الخطورة»، وبناء على تقرير اللجنة الرقابية تقرر منع عرض الفيلم داخل مصر وخارجها ، لكنها تحولت إلى قضية رأي عام ما دفع وزير الثقافة وقتها إلى إصدار قرار بعرض الفيلم للجمهور .
خدمة السلطة !
الاتهام السخيف، إذن، بأن الكاتب يخدم السلطة في أفلامه، هو اتهام مبتذل، ومتهافت، ويعكس نوعاً رخيصاً من المكايدة الأيديولوجية، وتصفية الحسابات الشخصية؛ بدليل الأزمة الأصعب، التي واجهت كاتبنا في فيلم «البريء» (1986)، واجتماع الوزراء : عبد الحليم أبو غزالة (الحربية)، أحمد رشدي (الداخلية) وأحمد هيكل (الثقافة) للنظر في أمره، ومطالبتهم بحذف النهاية، وتأكيد الكاتب، في أكثر من مناسبة، أنه تعرض، والمخرج عاطف الطيب، لخديعة من جانب منتج الفيلم، الذي تبرع من تلقاء نفسه بحذف المقاطع التي خيل إليه أنها تناهض النظام. ولم تكن جرعة الجرأة، والصراحة، بأقل قسوة في فيلم «ملف في الآداب» (1985)، الذي تناول قضية القهر، وحجم ما وصلنا إليه (مطلع الثمانينيات)، من إضطهاد وإذلال واستخفاف بأقدار الناس ومصائر البشر. وهي القسوة التي اتخذت لها منحى آخر في فيلم «الراقصة والسياسي» (1990)، الذي جعل من شخصية الوزير «خالد مدكور» (صلاح قابيل) صورة طبق الأصل، من وزير شهير، ابن مخلص لللنظام، يكاد يناطح السماء غروراً، ورغبة في إظهار قوة نفوذه، وهنا أتذكر أن العرض الخاص لهذا الفيلم أقيم في سينما كريم، وعقب انتهائه رافقت الكاتب الكبير في سيارته، ولم أجد مشقة في أن أتأكد من حدسي، وأتعرف منه إلى اسم الوزير المقصود .
لست بصدد تذكير أحد بمنجز وحيد حامد، الذي وقف طوال عمره على يسار السلطة، وإن زعم بعض المرضى أنه جزء منها، وندد بالفساد، وواجه بشراسة مظاهر الظلم الاجتماعي، وأعلن، في وقت مبكر، موقفه الرافض لظاهرة التطرف والإرهاب، باسم الدين، في وقت تخوف البعض من إعلان رأيه؛ فهو واحد ممن حملوا مشاعل التنوير، في السينما المصرية، بل يمكن القول، من دون مبالغة، إن الفضل يرجع إليه في النضج الفكري الذي اعترى مخرجين؛ مثل : عاطف الطيب في «كشف المستور» (1994)، سمير سيف في « معالي الوزير» (2002) و«ديل السمكة» (2005)، يسري نصر الله في «إحكي يا شهر زاد» (2009)، بل أنه كان سبباً رئيساً في الطفرة التي أصابت مسيرة النجم عادل إمام، بعد شراكتهما، والمخرج شريف عرفة، في أفلام : «اللعب مع الكبار» (1991)، «الإرهاب والكباب» (1992)، «المنسي» (1993)، «طيور الظلام» (1995) و«النوم في العسل» (1996)، وأكبر الظن أن عادل إمام خسر كثيراً، عقب انفضاض الشراكة، ولم يجد من يعوضه، مُطلقاً، عن الثنائي وحيد حامد وشريف عرفة . فضلاً عن دوره المجيد في اكتشاف، وتبني، الوجوه الشابة الجديدة من المخرجين الواعدين؛ مثل : تامر محسن في «قط وفأر» (2015)، محمد علي في «الأولة في الغرام» (2007)، مروان حامد في «عمارة يعقوبيان» (2006)، محمد ياسين في «الوعد» (2008) و«دم الغزال» (2005) و«محامي خلع» (2002) .
المصداقية والرؤية المستنيرة
لا تتوقف جرعة المكاشفة الصريحة، والجرأة، إلى جانب الحس السياسي الفطن، لدى الكاتب الكبير وحيد حامد في أفلام : «كشف المستور» (1994)، الذي يُعري لأول مرة الكواليس التحتية لأحد الأجهزة الأمنية الرفيعة (الاستخبارات العامة)، و«دم الغزال» (2005)، الذي طرح سؤالاً مبكراً للغاية عن المسئول عن هدر دم الوطن، واستباحة مواطنيه، لكن كاتبنا، وهنا المفاجأة التي لم يتم الكشف عنها من قبل، يقتحم عش الدبابير، ويتوغل في حقول من الألغام الشائكة، عندما يتخذ من فيلم «الأولة في الغرام» (2007) فرصة لمناقشة قضية التوريث، وهو ما يؤكده العنوان الأصلي للسيناريو، الذي كان يحمل عنوان «الوريث»، وكذلك موضوعه الذي كتبه وحيد حامد، ويتعرض فيه لشخصية الشاب المُدلل (هاني سلامة) الذي أنفق الأموال التي ورثها من والده على نزواته، ما يدعو عمه (جميل راتب) إلى أن يُقرر تلقينه درساً قاسياً ليعود إلى رشده وصوابه، وهي العلاقات والنزوات التي تُحيلك إلى ماكان متداولاً في تلك الفترة عن الوريث وشقيقه ورأس النظام. لكن يبدو أن شيئاً ما، كالرقابة مثلاً، أبدت اعتراضاً على عنوان «الوريث» فما كان من كاتبنا الكبير سوى أن اضطر لتغييره، وإن لم يغير موضوعه ليكون له السبق، كعادته، في طرح القضايا الحيوية، مع التزام المصداقية والرؤية المستنيرة.. كل سنة وانت طيب يا حبيب الناس .

 

التعليقات