طه حسين.. «تحت الطلب»

صبيحة 23 يوليو 1952 وجد الضباط الأحرار أنفسهم فى الحكم. قبل قيامهم بالثورة لم يكن ثمة اتفاق معلن فيما بينهم على إسقاط الملك، والتحول إلى النظام الجمهورى، والانتصار لطبقات اجتماعية معينة، ومعاداة طبقات اجتماعية أخرى. يؤكد ثروت عكاشة فى كتابه: «مذكراتى فى السياسة والثقافة» أن غاية ما تم الاتفاق عليه بين الضباط قبل ساعة الصفر: «القيام بحركة إصلاحية لإنهاض الجيش من عثرته علماً وقيادة وتسليحاً وتدريباً». كثيرون يجمعون على أن الضباط لم يستهدفوا عند القيام بحركتهم المباركة، التى أُطلق عليها فيما بعد «ثورة»، الاستيلاء على الحكم، بل كان الهدف هو «إصلاح الجيش» والوصول إلى ديمقراطية حقيقية تمنح الفرصة لمن يختاره الشعب لحكم البلاد.

وبغض النظر عن درجة مصداقية من يذهب هذا المذهب ويرى أن ثوار يوليو لم يكن هدفهم السلطة بل الإصلاح، فإن المشهد التاريخى يقول إن كل من هرول إلى الطرق على باب مجلس قيادة الثورة عام 1952 كان مدفوعاً بقناعة أن هؤلاء الشباب هم الحكام الجدد للبلاد، وأن مسألة استمرار الملكية (أُلغيت عام 1953) والتسلم الرسمى للسلطة لا يعدو أن يكون مسألة وقت. ذلك ما شعر به الساسة القدامى فتوسعوا فى تقديم خدماتهم للحكام المتوقعين، فعل ذلك سليمان حافظ -كما حكيت لك بالأمس- وهو أيضاً ما فعله الدكتور عبدالرزاق السنهورى وغيرهما من الرموز السياسية والقانونية لعصر ما قبل الثورة. وإذا كانت هرولة الساسة مفهومة فى إطار قاعدة «الانتهازية»، وهى واحدة من القواعد الكبرى التى تحكم العمل السياسى، فإن الأمر يبدو عسيراً على الفهم بالنسبة لمفكرين ومثقفين كبار كانوا من ضمن من كرّسوا لثقافة «الهرولة» فى النفس المصرية بعد ثورة يوليو 1952.

كثير من الكتّاب والمثقفين بادروا إلى وصف ما حدث فجر 23 يوليو بـ«الثورة»، وهو ما رد عليه محمد نجيب مصححاً: «بل هى حركة مباركة». كان من ضمن هؤلاء على سبيل المثال المرحوم سيد قطب، وهو كما تعلم من كبار المنظرين لأفكار الحاكمية والجاهلية التى غذت الإرهاب والتطرف. يسجل الكاتب «حلمى النمنم» فى كتابه «سيد قطب وثورة يوليو» أن سيد قطب كان من أوائل الكتّاب الذين طرحوا وصف «ثورة» على ما حدث فى 23 يوليو، وكتب مقالاً فى «روزاليوسف» على أنها ثورة وينبغى أن تكون كذلك، ولم يكن قد سبقه إلى هذه التسمية سوى الكاتب محمد فريد أبوحديد. فى ظنى أن موقف سيد قطب مفهوم. فالرجل كان على علاقة بعدد من الضباط الأحرار قبل قيام الثورة، ومن بينهم البكباشى جمال عبدالناصر، وكانت له طموحاته وأحلامه الشخصية مع رجال الثورة، لكن كيف نفهم تلك الخطوة التى اتخذها طه حسين بالانضمام إلى ركب المطالبين بتسمية ما حدث فى 23 يوليو بالثورة -إن لم يكن تصدره- معترضاً على وصف اللواء محمد نجيب -القائد الاسمى للثوار- لها بالحركة المباركة؟.

يذكر ثروت عكاشة فى مذكراته أن صفحات مجلة التحرير الناطقة التى أصدرها ثوار يوليو احتضنت صيحة الدكتور طه حسين الرافضة لوصف ما حدث يوم 23 يوليو بالحركة المباركة أو النهضة، وإصراره على أن يحمل اسم «ثورة». ربما كانت تلك وجهة نظر طه حسين، وقد يكون لديه حينها ما يبررها، لكن المتابع لسيرة عميد الأدب العربى يحتار وهو يسترجع ما تمتع به من كبرياء وشموخ فى مواجهة السلطة، وكيف عامل الأمير أحمد فؤاد -ملك مصر فيما بعد- بأنفة وغضب حين حدثه عن مؤتمر لـ«العميان»، وكيف رفض طلبه -بعد أن أصبح فؤاد ملكاً- منح مجموعة من السياسيين الموالين له درجة الدكتوراه الفخرية، وكيف كان لا يتردد عن توجيه النصح للملك فاروق، ويطلب منه أن يكون قدوة لشعبه فى حسن الخلق. هل وجد طه حسين نفسه مضطراً إلى الهرولة مع المهرولين.. وأن الأحوط له أن يضع نفسه «تحت الطلب»؟. لست أجد تلخيصاً للإجابة عن هذا السؤال أبلغ تعبيراً من وصف الدكتور مصطفى عبدالغنى -رحمه الله- للتحول الذى حدث لطه حسين -بعد ثورة يوليو- بقوله: «لقد أصبح طه حسين ضد طه حسين».

التعليقات