أقدم «الليبراليين» المصريين

أحمد لطفى السيد هو أقدم مثقف ليبرالى، تبنى بشكل مباشر وقاطع فكرة «الدولة الوطنية المصرية»، ونادى باستخدام اللهجة العامية بدلاً من العربية الفصحى لإنهاء حالة الازدواجية اللغوية لدى الشخصية المصرية. كما نادى بتحديد مفهوم جديد للشخصية المصرية يستند إلى أساس يختلف عن الرابطة الشرقية والدينية، ودعا إلى القومية المصرية كأساس لانتماء المصريين. كان لطفى السيد من الجرأة بحيث ينادى بنفض التراث الإسلامى برمته -مملوكى وعثمانى- عن كاهل الأمة المصرية والالتفات إلى التراث الفرعونى الذى اعتبره الجذر الأكثر أصالة لشجرة المصريين. فى مقال له بجريدة «الجريدة» كتب لطفى السيد: «على الرغم من الضعف الذى وقعت فيه مصرنا فمن المحقق أن المصرى تأخذه هزة الارتياح، إذ يعلم أن مصر كانت من العزة فى ذلك الزمن الغابر، وأن المصريين لم يكونوا -على ما يصفهم عامة الأجانب- مخلدين إلى السكينة كارهين السياحة والتنقل قانعين من الرزق بما تحت متناول اليد، بل كانوا أمة جد واستعمار تجرى فى استعمارها على أحدث الطرق الأوروبية الآن. ولا شك أن علم المصرى بهذه الحقائق المسطورة فى نحو القرن الخامس والثلاثين قبل الميلاد يخرج من نفسه القنوط من ارتقاء مصر، ويجعل آراء الذين يظنون بمصر عدم الاستعداد الطبيعى للاستقلال والسيادة من السخافة بمكان».

أنكر أحمد لطفى السيد الانتماء إلى العالم الإسلامى ونادى بفكرة الدولة الوطنية التى يعيش فيها المختلفون فى الدين تحت مظلة قومية واحدة، ونظر إلى قاعدة أن أرض الإسلام وطن لكل المسلمين على أنها قاعدة استعمارية ينفع التحدى بها كل أمة مستعمرة تطمع فى توسيع أملاكها، ونشر نفوذها كل يوم فيما حولها من البلاد. تلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصر القوى الذى يفتح البلاد باسم الدين، ويجب أن يكون أفراده كاسبين جميع الحقوق الوطنية فى أى قطر من الأقطار المفتوحة ليصل بذلك إلى توحيد العناصر المختلفة فى البلاد المختلفة. ولتوسيع دائرة الإيمان بأفكاره أنشأ لطفى السيد حزب الأمة واعتبره حزب «أصحاب المصالح الحقيقية فى البلاد»، وأصدر جريدة «الجريدة» التى مثلت نافذة تطل منها النخبة الليبرالية على المصريين، وكانت ساحة لنشر نظريته حول «الوصاية على الأمة» التى تذهب إلى أن أولى الناس بقيادة الأمة هم «أولو الرأى وهم الذين نبهوا ذكراً بعلو النسب أو بالعلم والفضل».

الطرح الذى قدمه أحمد لطفى السيد انطوى على قدر كبير من الوجاهة، فقد حلُم بأمة تأخذ بأسباب العلم والنهضة والرقى الاقتصادى: الزراعى والصناعى والتجارى، وتمنح فرصاً أكبر لأصحاب الكفاءات، وتتخلص من الأفكار البالية التى ورثتها عن العصر المملوكى/العثمانى، وتستبدل السلفية الإسلامية بالسلفية الفرعونية، لكن مشكلته الكبرى أن طرحه كان أشبه بـ«الجراحة» القائمة على البتر. فقد دعا إلى الانسلاخ عن معطيات الذات: اللغة، والانتماء الحضارى، والقيم التى يؤمن بها المجموع. لهذه الأسباب ظل الطرح التنويرى الليبرالى الذى قدمه لطفى السيد حبيساً فى عقول النخبة، وبدا بعيداً عن الشعوب التى نظرت بعين التحفظ إلى تلك الدعوة التى تحرضها على نبذ موروثها الثقافى بـ«خيره وشره، حلوه ومره» كما كتب طه حسين فى مؤلفه «مستقبل الثقافة فى مصر» ذات يوم.. والعميد كما تعلم كان واحداً من أخلص تلامذة لطفى السيد.

 

التعليقات