الصوت الواحد.. والعقل المستقيل

حدَّثتك بالأمس عن نمط التدين فى العصر المملوكى، وقلت لك إن أبرز ملمحين فيه يتمثلان فى غلبة «الانفعال والاحتفال» على طريقة تفاعل المجتمع المملوكى مع الدين، وأن «نابليون» دخل مصر وهو يفهم جيداً طبيعة تدين المصريين وحاول أن يرث المماليك فى أسلوب توظيفه كأداة للتعبئة حين يريد وأداة للتسكين لمّا يرغب.

لم تختفِ الثنائية الحاكمة للتدين (الانفعال/ الاحتفال) ولا الأهداف الوظيفية للمسيطرين أو راغبى السيطرة على المجتمع المصرى بعد زوال دولة المماليك على يد محمد على.

ولو أنك راجعت نمط التدين الذى أفرزته جماعات الإسلام السياسى منذ ظهورها عشرينات القرن الماضى وحتى يوم الناس هذا فستجد أنه لا يختلف كثيراً عن نمط «التدين أو الإسلام المملوكى».

التدين الانفعالى المتشنج هو الغالب على أسلوب تدين معتنقى فكر جماعات الإسلام السياسى. تستطيع أن تستدل على ذلك من حالة التشنج الغالبة على خطابهم الدعوى وكذا على أساليب الوعظ والإرشاد التى يستندون إليها فى توجيه الجماهير.

الشيخ عبدالحميد كشك يعد نموذجاً اقتدى به الكثير من دعاة ووعاظ هذه الجماعات أمس واليوم.

وتستطيع أن تلخص أبرز أدوات «الأسلوب الكشكى» فى الوعظ الدينى بسيطرة حالة من التشنج والعصبية على أداء من يتحدث، واعتماده بشكل مبالغ فيه على السرديات الإنشائية والشعرية، ودفع مستمعيه إلى الانخراط فيما يشبه «الزار الجماعى» بالدعاء أو البكاء أو التأمين على أو ترديد كلماته، ناهيك عن خلق نوع من التفاعل الوهمى بينه وبين محدثيه من خلال استخدام «الأسئلة التأكيدية» من طراز: «يبقى ربنا موجود ولّا مش موجود؟.. هيحاسبنا ولّا مش هيحاسبنا؟.. هينتقم مِ الظالم ولا هيسيبه؟».

إنه خطاب الشحن بما هو معروف عنه من سمات، وهو يستخدم فى الأساس فى التعبئة والتجييش فى كل أنواع المعارك. فعند إعداد الكوادر التى يتم القذف بها فى أتون الإرهاب تجد هذا الخطاب حاضراً، وفى المعارك الانتخابية تجده ظاهراً وبارزاً، عندما يصبح اختيار مرشح لمجلس أو لمنصب قضية دين، وليس دنيا يختار الأفراد لها من يصلح للنهوض بها.

إنه التدين الانفعالى الذى يرتكن إلى مبدأ الصوت الواحد والعقل المستقيل.

وليس بخافٍ عليك أن الجانب الاحتفالى بالموالد ما زال سائداً، بل وربما يكون قد تمدد وتوسع وشغل مساحة أكبر من اهتمام المصريين مقارنة بما كانت عليه الحال أيام المماليك.

وقد يزعم البعض أن هذا الجانب غائب لدى جماعات الإسلام السياسى، وهو زعم غير صحيح.

ففكرة الولى المقدس حاضرة بقوة لدى هذه الجماعات، لكنهم استغنوا عن الأولياء الذين ينصب البسطاء لهم الموالد إلى أوليائهم المتمثلين فى رموزهم. تستطيع أن تلمح ذلك فى خطاب هذه الجماعات الذى يتعمد نسج هالة غير واقعية حول رموزهم ومؤسسى جماعاتهم، ويتحيرون فى السلامة الإيمانية لمن يشكك فيهم.

فأسماء مثل رشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب تقبع وحدها فى دائرة القداسة داخل عقل عضو الإخوان ونفسه، تماماً مثلما يقدس المريد الصوفى رأس الطريقة التى يسير تحت رايتها. ولعلك تعلم أن جماعة الإخوان لم تكن فى مبدأ ظهورها أكثر من جماعة صوفية تحلَّق أتباعها ومريدوها حول القطب الأكبر المؤسس لها الشيخ حسن البنا.

التعليقات