الإلحاد.. تهمة قديمة متجددة

فى كل الأحوال لا نستطيع النظر إلى الإلحاد كحالة جديدة تنتاب بعض الأفراد، فهو قديم قدم الإنسان على الأرض. فى كل الديانات يظهر بين الفينة والأخرى ملحدون بها ومنكرون لمعتقداتها وقيمها. فى الوجدان الإسلامى نستطيع أن نقول إن مسألة «الإلحاد» ظهرت على ثلاثة مسارح أساسية، المسرح الأول هو مسرح السياسة، والثانى هو مسرح العلم والعقلانية، والثالث هو المسرح النفسى.

الظهور الأول لمسألة «الإلحاد» -فى الوجدان الإسلامى- كان سياسياً. وقد تجسَّد بشكل واضح منذ المراحل الأولى لتاريخ الإسلام والمسلمين. فكانت تهمة الزندقة «الإلحاد» ذات ظلال سياسية بالدرجة الأكبر. تلك نتيجة يمكن أن تستخلصها بسهولة من مطالعة ما سطرته كتب التراث حول أشهر «الزنادقة» وتجاربهم فى «الزندقة». الزندقة فى التعريف اللغوى العربى تعنى: «إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وتطلق على كل شاكّ ملحد ضالّ». هذا التعريف الذى يتبنَّاه العرب للزندقة ينطق بالسياسة، وليس بالدين، إذ يقوم على فكرة التفتيش عن النوايا، ولا يعلم نية العبد سوى خالقه. وليس من حق عبد أن يتهم عبداً مثله بأنه يُظهر الإيمان ويبطن الكفر، فهلّا شقّ عن قلبه؟، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأسامة بن زيد.

فى عدد من كتب التراث تجد ذكراً لبعض الأفكار التى تبنَّاها الزنادقة، لكنها تمر عليها مروراً سريعاً. وهى تعكس فى المجمل رغبة فى التشويه وتبرير الاتهام بالمروق عن الدين، وما يترتب عليه من إجراءات يتخذها الخلفاء والأمراء للانتقام من الخصوم السياسيين. من هذه الأفكار إسقاط بعض الفروض والتكليفات الدينية، مثل الصلاة أو الصيام وغيرهما. وهى تهمة تجد جذورها فى تفاعلات حروب مانعى الزكاة والمرتدين فى عصر أبى بكر الصديق، وهى الحرب التى اختلطت فيها الأهداف السياسية بالأهداف الدينية، بصورة يصعب معها الفصل بين النوعين من الأهداف.

الظهور الصريح لتهمة الزندقة ارتبط فى التاريخ الإسلامى باشتعال الصراع السُّنِّى - الشيعى، حين مال المتشيعون إلى اتهام حكام بنى أمية بالزندقة، وأنهم ورثوا الإسلام ولم يؤمنوا به. وهو الاتهام الذى كان يقابَل بدفاع مستميت من جانب أصحاب المذهب السُّنى. ظلت التهمة السياسية المتسترة بالدين تنتقل جيلاً بعد جيل حتى وصلت إلى تاريخنا الحديث، فتجلَّت فى الكثير من الخصومات السياسية التى اشتعلت فى عهد محمد على باشا، ثم استخدمتها بعد ذلك الجماعات الإسلامية التى ظهرت على الساحة السياسية، فجعلت من «التكفير» أداة أساسية من أدوات مخاصمة الدولة والمجتمع. ليس الجماعات وفقط، بل لقد لجأ بعض الساسة والحكام إلى توظيف «الزندقة» والاتهام بالكفر والإلحاد كوسيلة لمناجزة الخصوم السياسيين. ولعلك تذكر أن الرئيس «السادات» -رحمه الله- كثيراً ما كان يستخدم هذه التهمة فى وصف المعارضين له، خصوصاً من أبناء التيار اليسارى. وكأنه أراد أن يُحيى سلاحاً أساسياً من «أسلحة الخصومة السياسية»، اقترن بالعديد من الفترات من تاريخ التجربة السياسية الإسلامية.

التعليقات