القاهرة الجديدة

كان العالم قد خرج منذ ما يزيد على عقد من الزمن من الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، وكانت مصر قد خرجت لتوها من ثورة عارمة اندلعت عام 1919، قادها الزعيم سعد زغلول، انتهت بتحقيق استقلال شكلى فى تصريح فبراير 1922، خلَّف إحباطاً كبيراً فى قلب الشعب، زادت من حدته الأزمة الاقتصادية التى ضربت البلاد، بسبب استنزاف إنجلترا للقدرات الاقتصادية لمصر فى المجهود الحربى، واكتملت المأساة بالأزمة المالية العالمية التى ضربت أرجاء المعمورة.

قصة هذه الفترة حكاها نجيب محفوظ فى روايته المبدعة «القاهرة الجديدة»، من خلال 4 شخصيات محورية، الأولى هى شخصية على طه الشاب الجامعى «المستور» الذى عاش أسيراً لمخزون الشعارات الثورية، الذى كان يرتع فى داخله، وعلى رأسها تحقيق العدالة الاجتماعية، وفاز بقلب «إحسان شحاتة» الحسناء الفقيرة التى حلم الجميع بنعيمها، لكن يد المال الممثلة فى البك الوجيه تمكنت من وضعها فى الأغلال، لتصبح محظية من محظياته، وليتولى حراسة العلاقة الأثيمة محجوب عبدالدايم الشخصية الثانية التى كانت تزامل على طه فى الجامعة.

خلافاً لعلى طه الذى احتشدت نفسه بالمبادئ والشعارات كان محجوب عبدالدايم خلواً منها، بل كان يرى فى «على» مجرد إنسان جاهل لا يفهم شيئاً فى الحياة، بعد أن سجن نفسه فى مجموعة من الأحلام والأفكار التى تبعد عن الواقع بُعد الأرض عن السماء، وأن توافر المال فى يده هو الذى هيَّأ له القفز على الواقع بهذه الصورة، لأنه لو عاش ما يعيشه من معاناة لاختلف حاله. آمن «محجوب» أن العاقل مَن يدوس بحذائه المهترئ على كل المبادئ والأخلاقيات، ويتبنى فلسفة «طُز» فى مواجهة الجميع، من أجل الحصول على المال والجاه والنفوذ وجميع الأدوات الأخرى التى تيسر للإنسان أن يعيش الحياة التى يريدها. رضى بأن يكون خفيراً على جسد إحسان شحاتة، الذى فاز به البك الكبير، ونظير «الخفارة» حصل على وظيفة سكرتير فى مكتبه العامر بالوزارة، وعاش نزيلاً فى الشقة التى أسسها الوجيه الأمثل لتجمع بينه وبين محظيته.

لم تفرق الشخصية الثالثة «مأمون رضوان» بين على طه الداعى إلى العدالة الاجتماعية وحق البشر فى الحياة، وشخصية محجوب عبدالدايم الانتهازى الكبير الذى آمن بفلسفة «طُز»، لأن كليهما من وجهة نظرها حلَّق بعيداً عن الإسلام. آمن «مأمون» أن الحل فى العودة إلى الدين، فبه صلح أمر الماضى، ومن خلاله يمكن إيجاد الحلول المثلى لمشكلات الحاضر. وعلى مقربة من الشخصيات الثلاث كانت عدسة صديقهم الصحفى «أحمد بدير» حاضرة لتسجل التجربة دون أن يكون لها موقف منها، فقد اكتفت بالتنقل بين الجميع ونقل أخبار كل طرف إلى الآخر، والاستفادة مما بينهم من تناقضات فى تحقيق نجاح مهنى.

تلك هى معالم الصورة التى رسمها نجيب محفوظ للمجتمع المصرى فى فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وعبر هذه الشخصيات الأربع شرح حالة التنازع بين أربعة اتجاهات حالمة بتغيير الأوضاع، الأول الاتجاه نحو التغيير بالشعارات الكبرى المحلِّقة بعيداً عن الواقع، والثانى بالدين، والثالث بالانتهازية، والرابع باللعب على التناقضات.. ترى ما الذى تغيَّر فى أوضاعنا اليوم؟!.

 

التعليقات