«ابن القيم» و«دعاة العصر»

يتبنى «ابن القيم» فى كتابه «تلبيس إبليس» نظرية تقوم على التوازن النسبى فى تحليل ظاهرة الوعاظ الدينيين الذين يعتمدون على القصص والحكايات فى مخاطبة الجمهور. فقد تناول الجوانب السلبية والإيجابية لهذه الظاهرة القديمة المتجددة، لكنه يرجح كفة التأثيرات السلبية للظاهرة على تأثيراتها الإيجابية. يقول «ابن القيم»: «والقصاص لا يُذمّون من حيث هذا الاسم، لأن الله عز وجل قال (نحن نقص عليك أحسن القصص)، وقال (فاقصُص القصص)، وإنما ذم القصاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد، ثم غالبهم يخلط فيما يورده، وربما اعتمد على ما أكثره محال، فأما إذا كان القصص صدقاً ويوجب وعظاً فهو ممدوح». ذلك هو الرأى المبدئى لـ«ابن القيم» فى مسألة القص. والواضح منه أنه يقف بدقة على مثالب الدعاة الذين يعتمدون على سرد القصص والحكايات. ومن أهمها التوسع فى القصص والحكايات، والاعتماد على الكلام الاستهلاكى (دون ذكر العلم المفيد)، وتحميل الخطاب الدعوى بخوارق ومفارقات عديدة غير واقعية (الاعتماد على ما أكثره محال)، يستدرك «ابن القيم» بعد ذلك مشيراً إلى احترامه للقصص الصادق الحامل لموعظة. وواقع الحال أن هذا النوع من القصص نادر التردد على ألسنة الدعاة، يستوى فى ذلك القدماء مع المحدثين، لسبب بسيط، يتمثل فى أن دعاة اليوم يغترفون مما حكاه قصاص الأمس.

يذكر «ابن القيم» أن كباراً كانوا يحضرون مجالس الوعاظ، من بينهم عمر بن عبدالعزيز وعبيد بن عمير بن عبدالله بن عمر، ويستطرد: «ثم خست هذه الصناعة، فتعرض لها الجهال، وتعلق بها العوام والنساء، فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القصص، وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع فى هذا الفن، فمن ذلك أن قوماً منهم كانوا يضعون أحاديث الترغيب والترهيب، ولبّس عليهم إبليس بأننا نقصد حث الناس على الخير وكفّهم عن الشر وهذا افتيات منهم على الشريعة، لأنها عندهم على هذا الفعل ناقصة تحتاج إلى تتمة، ثم نسوا قوله صلى الله عليه وسلم: من كذب علىَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار. ومن ذلك من يظهر من التواجد والتخاشع زيادة على ما فى قلبه، فمن كان منهم كاذباً فقد خسر الآخرة، ومن كان صادقاً لم يسلم صدقه من رياء يخالطه».

المتأمل للنص السابق الذى سطّره «ابن القيم» يظن أن الرجل كتبه ليصف حال بعض دعاة اليوم ووعاظه، وتفسير ذلك يرتبط بأن مَن يرتعون بالفضائيات وعلى مواقع التواصل الاجتماعى اليوم يحملون نفس الخطاب، وذات الطرائق والأساليب التى كان يعتمد عليها القصاص والحكَّاؤون القدامى. فالعوام والنساء يشكلون الكتلة الأكبر لدعاة الفضائيات، مثلما كانوا فى الماضى جمهوراً مستديماً لمجالس الوعظ، والأحاديث والحكايات التى يرددها هؤلاء عن عذاب القبر وأهواله، ونعيم الجنة وحورها وغلمانها المخلدين، بعيداً عن النصوص القرآنية، يشير «ابن القيم» إلى أن أجداد دعاة الفضائيات اخترعوها اختراعاً ووضعوها على النبى صلى الله عليه وسلم، متذرعين بأنهم يريدون حث الناس على الخير وكفهم عن الشر، وكأن الشريعة لم تكتمل بنص القرآن الكريم: «الْيَومَ أكْمَلْتُ لَكُم دينَكُم وأتمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِى ورَضِيتُ لكُم الإسلامَ دِيناً».

 

التعليقات