«المنجِّمون» فى «مصانع التاريخ»

مع انصرام عام وهبوب نسائم عام جديد تكثر النبوءات حول مستقبل الأحداث والأشخاص والأوطان. تروج بضاعة المنجمين وقراء الطالع والمتخصصين فى الفلك، وينتعش الطلب عليهم من البسطاء والمتوسطين والكبار، بالمفهوم العام لهذه المصطلحات الثلاثة. فى اللحظات التى يبدأ فيها العام فى لفظ أنفاسه الأخيرة، وتهب نسمات عام جديد، يشتعل الحديث عن شخصيات ستموت، وأخرى ستمرض، وثالثة ستصح، وأحداث ستشهدها البلاد، وأخرى سيعاينها العباد، وأن برج فلان يقول إن حظه حديد، وبرج الآخر يؤشر إلى أن حظه «صفيح»، وهكذا. بعض الناس تنظر إلى المنجِّمين بعين الريبة، حتى لو صدقوهم، فى حين يختلف الأمر بالنسبة لآخرين يعطون آذانهم لأحاديث العرافين، ويصدقون توقعاتهم، وقد يديرون أيامهم وأحوالهم بناء عليها.

هذه المسألة قديمة قدم الإنسان، إلى حد يمكن معه القول إنه طيلة تاريخ حياة البشر على الأرض مثّل المنجّمون لاعباً أساسياً ضمن فريق صناعة التاريخ وتحريك أحداثه. منذ عصر «فرعون موسى» وهناك اهتمام جارف وعلى أعلى المستويات بأقوال المنجمين وتوقعاتهم. استمع «فرعون» إلى نبوءة العرافين بميلاد ذكَر يتسبب فى زوال ملكه، فأدار علاقته ببنى إسرائيل بناء عليها، لينتهى به الأمر إلى الغرق على يد «موسى» الذى كان وصفه بـ«الساحر المبين»، ورغم ذلك اندفع وراءه بعد أن شق بعصاه البحر، ولم يفهم أن الساحر الذى فلق البحر قادر على رده إلى طبيعته ليغرق فرعون وأهله!.

كان لأقوال المنجمين أثر فى ظهور حكام وتأسيس دول، كما حدث مع أبناء «أبى شجاع بويه» الذى تنَّبأ له أحد المنجمين بأن أبناءه الثلاثة سيصيرون ملوكاً يؤسسون دولة يتعاقبون على حكمها، ويرث ملكهم من بعد الأحفاد الذين يخرجون من ظهورهم. تروى كتب التراث أن مزاج «أبى شجاع» كان حزيناً، وعمّق من حزنه تراكم مشكلات الدنيا عليه، وكان لحزنه انعكاس واضح على أبنائه الثلاثة، والدليل على ذلك ما قاله له صديقه «شهريار» من أن الحزن لن يهلكه وحده، بل سيهلك أبناءه الثلاثة. المزاج الحزين اليائس من الدنيا يجعل صاحبه أشد ميلاً إلى الاستماع إلى نبوءات العرافين، وتصديقها سواء كانت مبشّرة، تعده بانصلاح الأحوال، أو منذرة تمنحه الذريعة فى الانغماس أكثر فى بحر أحزانه.

وتروى كتب التراث أن كثيراً من العواصم العربية الشهيرة لم تكن بعيدة أيضاً عن أعمال العرافة والتنجيم. فها هو الخليفة «المنصور» يستجلب أحد العرافين ليقرأ له طالع مدينة «بغداد» بعد بنائها، أما قصة التنجيم فى نشأة «القاهرة» فمعلومة بالضرورة. تلك المدينة التى استعارت اسمها من نجم «المريخ» والذى يطلق عليه «القاهر». ويمكننا القول بأن الاهتمام بالتنجيم وقراءة الطالع وحساب النجوم وغيرها من الأمور الذى ولع به الفاطميون انسجم مع المزاج المصرى، وخلق نوعاً من الدعاية للفاطميين بين المصريين.. قد يكون الضعف أو الخوف من المجهول أو التوجس من المستقبل هو سر اللجوء للمنجمين، لكن فى كل الأحوال يظل «التنجيم» جزءاً من الحياة البشرية، ويظل المنجم مجرد شخص يجيد قراءة معطيات الحاضر، ليتوقع من خلالها مسارات بعض الأمور المستقبلية، وسبحان مَن استأثر لنفسه بعلم الغيب.. «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ».

التعليقات