هل هى عودة جديدة للاشتراكية؟

فى عام 1989، أصدر الأمريكى «فرنسيس فوكوياما» كتابه الأشهر «نهاية التاريخ». وفيه أشار إلى أن الليبرالية بنسختها الغربية، وبما تنطوى عليه من قيم وأفكار، تمثل النسخة الأخيرة للأيديولوجيات، وأن العالم كله تصالح على حقيقة أن الليبرالية بجناحيها السياسى (الديمقراطية)، والاقتصادى (الرأسمالية) تمثل النظام الأمثل الذى ستتعولم حوله كل الدول التى تعيش فوق سطح الكوكب. منذ ذلك التاريخ ولدت فكرة العولمة، وظهر فقهاؤها الذين بشّروا بأفكار العالم الجديد. بعد صدور كتاب فوكوياما سقط الاتحاد السوفيتى وتفكك (ديسمير 1991)، وتراجعت الفكرة الاشتراكية فى بلد المنشأ، وأصبحت بعض الدول والأنظمة السياسية التى تتبنى أفكاراً اشتراكية موضع سخرية وتساؤل: كيف تواصلون تبنّى أفكار سقطت من أذهان من اخترعوها؟

لم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت فقهاء العولمة والمتكلمين بأن العالم لا بد أن ينفتح على بعضه البعض لتبنى نفس القيم، واستهلاك نفس السلع بذات الأسعار، وتبادل المعلومات والأفكار دون عوائق عبر شبكة الإنترنت، ومطالعة حياة وعادات وثقافات بعضه البعض عبر النوافذ التليفزيونية التى تتزاحم على شبكات الأقمار الصناعية، ويخوض كله حرباً واحدة تصالح الجميع على تسميتها منذ عام 2001 بـ«الحرب على الإرهاب». فى الكواليس كان يقبع كبار الرأسماليين فى العالم الممثلين للشركات عابرة الجنسيات يديرون المشهد العالمى، يسقطون حكومات ويديرون اقتصاديات بلاد ويوجهون سياستها. حفنة من البشر تتحكم فى غذاء ودواء وكساء كل من يدب على الأرض.

فى هذه الأجواء، كان من الطبيعى أن تتوارى الأفكار التى تتحدث عن العدالة الاجتماعية وحقوق البشر إلى الظل، فهى أفكار قديمة تعود إلى الزمن الاشتراكى الذى غادره العالم بعد أن استوت الرأسمالية على عودها، وأصبحت قادرة على «تجديد نفسها» لتستجيب لأية متغيرات طارئة. وظنى أن المتغير الفرنسى الذى طفا على سطح المشهد العالمى مع مظاهرات أصحاب السترات الصفراء يعد متغيراً نوعياً بامتياز، ويمثل بعثاً بطريقة أو بأخرى للأفكار الاشتراكية، فهذه المظاهرات لا تقل خطورة على مستوى حجم المشاركة أو سمات من يشاركون فيها عن مظاهرات 1968. الفارق الوحيد بين مشهد 68، ومشهد 2018 أن الطلبة هم الذين أطلقوا شرارة الانتفاضة الأولى، ثم شارك فيها العمال وصغار الموظفين وأرباب المعاشات، والعكس حدث فى مظاهرات 2018. وقد تمخّصت مظاهرات 68 عن تحولات جذرية فى طبيعة السياسة والاقتصاد الفرنسيين، فدفعت بالاشتراكيين إلى سدة الحكم بعد عدة سنوات من وقوعها، وذلك على مستوى السياسة، ووضعت أفكار العدالة الاجتماعية وإجراءاتها على خريطة الاهتمام الأوروبى على مستوى الاقتصاد.

مساء الاثنين الماضى خرج الرئيس الفرنسى «ماكرون» على شعبه ليعلن مسئوليته عن حالة الغضب التى أصابت الفرنسيين جراء سياساته، وأعلن حزمة قرارات تستهدف رفع المستوى المعيشى والقدرة الشرائية للفئات التى تضررت بفعل ما اتخذه من إجراءات، وتصب فى خانة تحقيق العدالة الاجتماعية لمحدودى الدخل وأصحاب المعاشات. تباينت ردود الأفعال على قرارات «ماكرون»، فهناك من قبلها واعتبرها علاجاً جيداً، وهناك من رفضها لأنه ما زال طامحاً إلى المزيد. والمزيد الذى يقصده هؤلاء وضع أسس جديدة لنظام سياسى واقتصادى لا يسحق الشعوب لحساب «تجار العولمة»، حتى لو اقترب من الطرح الاشتراكى.

التعليقات