الفكرة العجوز.. والواقع الشاب

فى قول لإحدى الداعيات: «يجوز للخطيب رؤية شعر وذراعَى خطيبته وأن تكشف له عن ساقيها حتى يراهما». وفى رواية أخرى للداعية نفسها: «لا يجوز للخطيب أن يقول لخطيبته (بحبك) فى التليفون». أقوال كثيرة متناقضة تتسكع هذه الأيام عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى. أقوال تحمل المعنى ونقيضه، ما يجعلها مادة جيدة للسخرية والتريقة. أصحاب هذه الأقوال والفتاوى من شيوخ وعجائز الدعوة يغردون فى كوكب آخر، أو عادت بهم آلة الزمن أشواطاً طويلة إلى الوراء.

ثمة فارق كبير بين الفكرة العجوز والواقع الشاب. مثل هذه الأفكار يرتاح الدعاة والداعيات إلى ترديدها، ويفرحون كثيراً بإثارة جدل حولها داخل الخطاب الإعلامى أو الفيسبوكى، ويشعرون فى داخلهم أنهم حققوا إنجازاً يبلغ مستوى الإعجاز، لكن الواقع شىء آخر. الواقع بطبيعته شاب يُملى قوانينه الخاصة وقواعده المخصوصة وسلوكياته المعاصرة على الحياة. من الممكن أن يستمع الشباب إلى مثل هذا الكلام آناء الليل وأطراف النهار، لكن الواقع ومعطيات الواقع هى التى تحدد فى النهاية سلوكه. الشباب «ابن عصره» والشيخ «ابن ذكرياته». هذه حقيقة يريد البعض القفز عليها، لكن هيهات.

فى سياق العلاقة بين الخطيب وخطيبته لا يخفى على أحد أن فكرة الزواج لم تعد تتمتع لدى الجيل الجديد بما كانت تحظى به من قيمة وحيثية لدى الأجيال السابقة. أسباب كثيرة، بعضها اقتصادى وبعضها اجتماعى وبعضها ثقافى تتدخل فى إعادة هيكلة تصورات الشباب عن مؤسسة الزواج. وربما كانت الأسباب الثقافية هى الأشد وطأة والأكثر تأثيراً فى التحول الذى أدى إلى تراجع فكرة الزواج لدى الأجيال الجديدة. بعضهم يعتبر فكرة الزواج فكرة عجوزاً تنتمى إلى عالم آخر غير عالمهم. ذلك ما يمكن أن تبصره فى الواقع.

التجربة تقول إن الواقع يفرض إرادته وتوجهاته على مسارات الأحداث، قد يقهر فكرة رائجة فى العالم الافتراضى ويجعل الحوار حولها أشبه بتغريد مجموعة من الطرشان الذين لا يسمعون صوت الواقع. أيام الرئيس السادات كانت وسائل الإعلام تتحدث عن الرخاء الذى سيصيب حياة المصريين نتيجة سياسات الانفتاح الاقتصادى، وأن كل مصرى سيثرى بفعل السياسات الجديدة ليصبح لديه فيلا «محندقة» وسيارة لطيفة. هذه الأفكار المفارقة للواقع كانت تتردد بكثافة داخل العالم الافتراضى لوسائل الإعلام، لكن أحداً لم يكن يصدقها فى الواقع. واقع الكثيرين كان يعبر عن إحساس عميق بالعجز عن سد الاحتياجات، وكانت الشكوى من الغلاء الذى نتج عن الانفتاح هى الأعلى صوتاً، واختلال التوازن يسود حياة الناس نتيجة تربية النوازع الاستهلاكية لديهم، وقد كان الوجه الاستهلاكى الأكثر حضوراً فى سياسات الانفتاح. الأفكار العجوز التى كانت تتردد فى وسائل الإعلام لم تغير من إحساس المواطن وردات فعله على ما يحدث حوله. أولى بمن يهتم بأمر الناس ويريد أن يغير تفكيرهم أن يستمع بجدية إلى صوت الناس والأفكار الحقيقية التى تتردد فى واقعهم ثم يتحدث بعد ذلك، حتى لا يبدو وكأنه يغرد خارج السرب.

التعليقات