فى بيت "محفوظ".. أم كلثوم: "رحيل أبى كشف تدنى الكثيرين"

ما عادت «هدى» نجيب محفوظ، أم كلثوم، تتجنب التواصل مع الإعلام، كما كان الأمر لسنوات طويلة ربما بعمرها كله، إلا سنواتها الأخيرة. اضطرتها مرارات وتعديات، معنوية ومادية.. بعد رحيل الأب وأثناء مرضه.. تكشف نوعا من الحصار لشخصيات، كانت لصيقة بالأستاذ وتعمل بالإعلام والثقافة..حرمتها حتى فرصة دفع العدوان.. قالت لى أنها فى مرتها الأولى مع الصحافة قبلت التعامل مع أخبار الأدب ثقة فى اختيار جمال الغيطانى وتوقفت، لكن «سنابك الخيل» تكالبت فاستشعرت حتمية «كسر الطوق».. تقول «لما كان بابايا (هكذا تنادى أبيها طوال لقائى بها) عايش، لم أكن أجد فى أى هجوم عليه أو علينا، مشكلة.. هو موجود لو عاوز يرد، أو عاوز يسامح براحته، لكن مع غيابه حسيت إنى عاوزة أدافع عنه، وعن أمى وأختى.. شوية يطلعوا يقولوا احنا أقرب لبابايا مننا، و«شوية يقولوا بناته أخوان» ومنعوا فيلما من رواية أولاد حارتنا.. لغاية ما وصلوا اننا «داعش»، وللآسف اللى عمل كده كانو قريبين من والدى.. حتى حقوقنا المالية تعدوا عليها بتآمر وبمحامين، كان المفروض أنهم وكلاء عننا، فإذا بهم مع الخصوم.. قلت مش حاسكت، خصوصا إننا كنا بنكتب ردود ونبعتها، ولا يتم نشرها.. هكذا كما تقول غالبت ما شبت عليه من تجنب للفضاء العام والصحافة، وقررت، أخيرا، أن تواجه.

...............................

أولى إطلالاتها من شاشة التليفزيون، كانت على «الإم. بى. سى»، اشترطت على شريف منير التسجيل، ومع ذلك احتبس صوتها.. فى المرة الثانية، كما قالت لى، ظلت منى الشاذلى تتواصل معها بالتليفون، تدريجيا..حتى ألفتها، فكانت الحلقة التى أثارت فيها تزييف قلادة النيل التى نالها محفوظ وروت الكثير مما سبق. ثم كتبت لملحق الأهرام الثقافى شهادتها المفتوحة قبل عام، والتى لم أكن غير جسر لها، بعدما أقنعتها أن أحدا لا يمكنه حجب حقها فى الشهادة على صفحات «الأهرام» بيت محفوظ وكل الكبار وتوالت حواراتها بعدها.. لم تعد «هدى» التى التقيتها أول مرة قبل ما يقرب من خمسة وثلاثين عاما..

أول ما التقيت بهدى وفاتن محفوظ، كان قبل نوبل ربما بخمس سنوات.. كان لقاء «مقتنصا»، ربما ٠٠مرتب، وغير مرتب، فى آن واحد، لكن المؤكد أن وراءه كمنت بعض من ملامح «شقية»، كانت جزء من سمات العمل فى «الصبوحة»! و«الصبوحة» كانت الاختصار لتجربة فريدة ومتميزة فى الصحافة المصرية: مجلة «صباح الخير»، التى ولدت عام ١٩٥٦، وكأنها الترجمة الاجتماعية لمجتمع محمل بالحلم ومفعم بالحيوية.. مجلة القلوب الشابة والعقول المتحررة، والأهم أنها مجلة الأفكار الجديدة وكسر النمطية بامتياز،. وذلك أمر شرحه يطول.. لكن ما يعنينا، فى هذا السياق هو كيف سيطرت على، أول الثمانينيات وقبل نوبل بحوالى خمس سنوات، فكرة أن أدخل» بيت «الأستاذ نجيب محفوظً».!؟


 

 

كنت قد أجريت عدة حوارات مع الاستاذ «الدمث دوما، المجامل بلا توقف. اللقاءات كانت تتم فى معظم الاحوال، قرب التاسعة صباحا، فى مقهى «على بابا»، المطل على ميدان التحرير، قرب الشرفة حيث اعتاد الاستاذ أن يطالع الجرائد، يصل مترجلا نشطا، واقفز انا من القطار، أو المترو، القادم من اتجاه المعادى، إلى محطة «باب اللوق». يكون الأستاذ قد انتهى من فنجان قهوته، وأكون أنا قد شحذت «مؤنتى «،مما سوف أطرحه، حتى كان بداية شهر ديسمبر، واتفقت مع الأستاذ رءوف توفيق متعه الله بالصحة والعافية، أن نحتفى «بالاستاذ»، بشرط أن يكون، احتفاء غير مكرر... «غير مكرر».. غير مكرر..، ظلت العبارة تتردد داخلى لأيام، تلازمنى أربعا وعشرين ساعة فى الأربع وعشرين.كيف وازاي؟!.

هكذا ولدت «مغامرة» صغيرة لدخول بيت الأستاذ نجيب..! بمخيلة شقاوة «صباح الخير»، هى بالنسبة لعمرى وقتها، المغامرة التى سوف يسجلها التاريخ! أعرف، ويعرف كل زملاء المرحلة من الصحفيين، أن الاستاذ لم يلتق، قبل الفوز بجائزة نوبل، أحدا فى بيته.. «اسم «وحيد، انفرد بهذا» التميز».. ليس فقط له حق هذا الامتياز، ولكن له حق الحضور الى بيت الأستاذ، فى أى وقت.. يكفى رنة تليفون، يقول من خلالها أنا قادم.. هو «اونكل»، «هدى» والمرحومة «فاتن»، وهو الصديق الحميم للأستاذ، والذى ربما حظى بماهو أكثر.. هذا ما كان للأستاذ المرحوم «ثروت أباظة «الذى كثيرا ما كان «مستشارا» للأستاذ فى بعض الشئون، كما جرى الأمر عندما وقع اختيار «هدى «، الإبنة الكبرى، على الجامعة الأمريكية، بعد انتهاء دراستها الثانوية. شاور الأستاذ نجيب، صديقه الأباظى فى الأمر، «فهدى»، كما لاحظ الأب، تهوى الرسم، لا يراها إلا وهى ترسم، توقع أستاذنا آن تختار «هدى»، كلية، تتماس وميولها «الفنية» قال له الاستاذ أباظه «سيبها تختار»، وذهب بنفسه وأحضر لهدى «أبليكيشن» الجامعة الأمريكية.. نعم كانت «لهدى» فى سنوات البداية، «هفهفات»، فنية، أتت جذورها كما قالت لى، من وشائج «أمومية» سربتها تلك «الخروجات»الصباحية، إلى دار سينما «أوديون»، حيث أفلام، بعضها يحمل فى ثناياه، عروضا «للبولشوى» والأوبرا... تقول لى «هدى»، إنها كثيرا ما كانت تعود للبيت، بعد خروجة سينما أديون، تحتشد بكل ما وصل إليها من مؤثرات، فى السمع والبصر أمام المرآة، تقف على أصابع قدميها، تفرد ذراعيها، تلف..تدور.. دورة وأخرى، مستحضرة مشهد راقصة باليه.. روت لى «هدى» هذا المشهد قبل ثلاثة أيام فقط.. بعد ما يقرب من خمسة وثلاثين عاما من أول مرة التقيتها والأستاذ والسيدة الأم، عطية الله وفاتن والأستاذ رحمهم الله، يوم دخلت بيت الاستاذ للمرة الاولى قبل نوبل بخمس سنوات، بعد خطة استغرق تنفيذها ما يقرب من أسبوع، استلزمت صبرا طويلا من الأستاذ، وبعضا من الإلحاح منى، كثيرا ما كنت أخجل منه!. بدأت يومى الأول، بتليفون للأستاذ.. أعربت فيه عن رغبة فى اللقاء.. وبأريحيته المعهودة، رحب، لكن جملة قصيرة جعلته يتوقف «أصل يا استاذ نجيب، انا عاوزة اقول لحضرتك كل سنة وانت طيب، لكن فى البيت..!».. ألقيت بطلقة الاستكشاف وانتظرت.. ولم يطل الانتظار: دونما أى تغير فى النبرة قال لى: «و الله كان بودى، لولا إن البيت فيه شوية دربكة و إصلاحات».

 

على الإعتراف، أنى لم أتوقع أبدا موافقته، وأننى بفعل «خبث برئ»، وطنت نفسى، على نفس طويل، دون أى ضمانات للوصول الى الهدف..قلت: «والله يا أستاذ نجيب، لن نزيد الأمر ارتباكا، اعدك ألاتطول الجلسة.. و.. وتفادى بلياقته نذر الإلتفاف قائلا: «ده كان يسعدنى، لكن زى ما قلت لك حال البيت لا يسمح».

كان يمكن أن يتوقف الأمر هنا لولا، أن فكرة انتصارى الصغير، بدخول بيت الأستاذ، وما يمكن أن يحدثه أولا فى داخلى، ومع مدير التحرير الأستاذ رءوف، الذى أبدى حماسا، وأخرج ورقة بخمسة وعشرين قرش، لوح بها مكافأة، فى حال الإنجاز!جعلنى لا استسلم لحكاية «الدربكة» اللى بيت الأستاذ، والتى اعتذر بسببها، وكانت «الحجة».. قررت أجعل مكالمة الأستاذ نجيب، يوميا، ولنفس الغرض هدفا لا أحيد عنه.. وقد كان... كل يوم اتصل به، ولا يغضب ولا يتهرب، ويجيبنى بنفس الصوت اللطيف الهادئ، منوعا، بين أن (البيت فيه بياض )أو فيه (شغل سباكة )،أو (كهرباء)! حتى حدثت المعجزة: «وافق»! ربما ليتخلص من الإلحاح..أى «صباح وردى»، ذلك الذى تغير فيه رد الأستاذ، ووافق على أن ألتقيه الساعة الخامسة، ببيته على نيل العجوزة؟ كتمت» سرى»، فلست على يقين من تمام أمره، ربما يندم استاذنا ويتراجع...فى اليوم الموعود، اشتريت زهورا، وتورتة. قبل الخامسة بدقائق، كنت على باب العمارة، اتلفت حولى أسجل فى رأسى كل التفاصيل.. الأصوات وروائح السندويشات المنبعثة من المحل الشهير الملاصق، الوجوه المارة، حتى الأشجار.. لم يكن التصوير «، الفوتوغرافى، من سمات الشغل فى «صباح الخير»، كان الرسم.. يصطحب الرسام الكاتب لتكتمل «الجملة»، ولم يكن ذلك معقولا أو مقبولا، فى زيارة، قلت للأستاذ أنها لتهنئته بعيد ميلاده. تحولت كل حواسى الى «توثيق» بدأ من صوت جرس باب البيت الذى كانت يدى عليه فى «الخامسة» تماما. حقيبة يدى على كتفى، باقة الورد فى يد، وعلبة التورته فى اليد الاخرى، ودقات قلبى تتجاوز صوت الجرس. من يا ترى سوف تكون طلتى الأولى عليه؟فتحت السيدة «عطية الله» بابتسامة اقرب إلى ضحكة، احتلت كل مساحة الوجه، وبترحيب وصلنى، حارا، بسيطا، تلقائيا.. وجه ألوف، كأنما عرفته من قبل... كان على، ليس فقط استيعاب تفاصيل الكلام والإنفعالات، بل تفاصيل المكان وروائحه.. باب الشقة.. ايقاع جرس الباب، المدخل بلوحاته، أول ما يلتقى به بصرك، وهو الفاصل بين جناحين، سوف اكتشف واحدا منهما فى هذه زيارة، وجناح غرف النوم المحجوب بباب على شاكلة مرايا،.الجناح الذى اتيح لى، هو جناح باتجاه الشمال، صالون يفتح على السفرة، فى خلفيتها مكتب الأستاذ ومكتبة صغيرة.. الطابع الكلاسيكى لمقاعد الصالون.. لوحات «الجوبلان» (نوع من النسيج الفرنسى)، أصص الزرع فى الأركان، قليل من اوان كريستال أو تحف لا تختلف عما تجده فى بيوت الطبقة المتوسطة.. مساحات الباركيه اللامع، المتبقية والظاهرة من تحت السجاد.. والأهم، ألا أثر من بعيد أو قريب، لا لبياض، ولا لدربكة سباكة، أو كهربا! بيت يشع من أركانه، قبل الأناقة والذوق، رائحة «النظافة «..بعد أن تخيرت الجلوس على كنبة مواجهة، للبلكونة، الشهيرة، التى كنا نتوقف عندها عند المرور، لنشير (ده بيت نجيب محفوظ)، والتى تم تقفيلها بالألوميتال والزجاج والستارة الكثيفة، حاجبة الرؤية، وتحولت إلى حديقة «شرحة» - بكسر الشين - لنباتات الظل. يشى الزرع الأخضر فى البيت «بتدليل «أصحاب البيت، قالت لى «هدى» مؤخرا، أن والدتها، كانت تملك خاصيتين. أولهما إصرارها، حتى مع وجود من يمكنه المعاونة، على أن تقوم بنفسها بكل شئ، ليس فقط فيما يتعلق بشئون البيوت اليومية المألوفة، ولكن كان لها دراية بتفاصيل الصيانة، وو ولع بمسألة النظافة. تقول «هدى» من أكثر ما علق فى ذاكرتى، ريحة البيت لما كنا نرجع من المدرسة.. ريحة النضافة.. ماما كانت تهتم بشدة بالنضافة، يمكن حاجة اكتر من مجرد الاهتمام، تقدرى تقولى أن دقيقة جدا جدا فى الحكاية دى». سمحت السنوات وبتدرج حكيم، بتواصل مع «هدى» محفوظ، تواصل عموده انسانى بحت. صحيح لا يمكن فصله عن (البحر الأعظم)، لكن استمراره ولو على فترات، وقوده وجوهره جاء من تلاق. فى المغرب «الديسمبرى»، الشهير، كان أول مرة، ليس فقط أدخل فيها بيت الأستاذ، ولكن التقى أيضا بفاتن وهدى، والسيدة «عطية الله»، التى أدين لها، وقتها، بخفض صوت دقات قلبى، وبإغراقى بكرم مصرى «ابن بلد».. شاى وجاتوه وعصير.. أطل الأستاذ، تسبقه عبارات ترحيب «ياأهلا وسهلا»..رحت استشف النبرات وأستقرئها، وارتاح قلبى أكثر، بدخول فاتن وهدى، بسمت غارق فى البساطة الودود.٠٠ماجرى بعد ذلك، له مقام آخر.

لم تكن «هدى» أول سلسال أستاذنا، أفضت إلى، إنه سبقها، فى الرحم، حمل لم يستمر، ذكر، لم يستقر فى رحم الأم، اصطدمت الأم «بعجلة» فى الشارع، وقعت، تم نقلها الى مستشفى الدكتور على ابراهيم» القريب وقتها من بيت الاستاذ والكائن «بعوامة» على نيل العجوزة، فى مواجهة لميدان فينى «حيث مستشفى على ابراهيم، الذى سوف يبقى المستشفى «المعتمد» لميلاد الفتاتين وللجراحات ولكل ما له علاقة بصحة الأسرة، حتى حين تعب «الأورطى»، عند محفوظ، كان من اشار عليه بالسفر جراح، هو ابن على باشا ابراهيم.تقول هدى: «فاتن رحمها الله، كانت تشبه «بابايا» فى كل شئ.. مرحة، عندها مس السخرية الخفيف.. بابايا «كان حنين جدا» فى البيت، (لم يكن محفوظ إلا «أبا») بالنسبة لها. تقول: «عمر ماما أو بابا ما حسسونا بمسألة الشهرة.. هو بابا.. وعيت عليه وهو مشهور، بس دى شغلته».

كان محفوظ من عشاق البكور.. تدخلنى إلى حيز أكثر حميمية «بابايا كان يبدأ اليوم، ببضع تمارين ضغط فى حجرة النوم.. يتناول الافطار، يقرأ آيات من القرآن قبل الخروج.. دى أقدم صورة له فى خيالى.. ماما بتقول إنه كان رياضيا أوى، وأنه فى أول حياتهم كانت «عينيه عسلية فاتحة «تضحك هدى قبل أن تستطرد» أى حد ناجح بيحتاج نظام وبيحتاج اللى يساعده وبيتهيأ لى، إن ماما فهمت ده، هى كان عندها شخصية مستقلة، وفهمت أن بابايا بيحب «الانضباط».

الروتين الثابت، بعض من الملامح المحفوظية، التى صارت سمت وسمة تقول: «البيت كان ماشى بالمواعيد بابايا كان يرجع، يتغدى الساعة اتنين، ممكن اونكل ثروت يتكلم معاه فى التليفون العصر، ربع ساعة،.. الساعة اربعة يفتح الراديو على محطة أم كلثوم ويشتغل لغاية الساعة تمانية ونص.

أحيانا كتيرة كنا بنذاكر معاه فى نفس المكان وهو بيشتغل».. كان مكتب الاستاذ، ومكتبته فى الخلف يشغلان حيزا، من حجرة السفرة الواسعة التى يفصلها عن الريسبشن والصالون.» كان ممكن حتى نسأله وهو بيشتغل ويرد عادى.. أكيد ماما كانت دايما تنبهنا ما نعملش دوشة.. مرة واحدة اتخانقنا انا وأختى، ومن غير غضب وبمنتهى الهدوء قال لنا: اتفضلو برة.. بعد الساعة تمانية ونص كان يتفرج على التلفزيون، بس احنا واحنا صغيرين كنا بنام بدرى».

كما تقول «هدى»، لم يعنف محفوظ الأب، ابنتيه ابدا، «بابايا كان دمه خفيف جدا، ولو عاوز يوجه أى ملاحظة، يقولها بطريقة لذيذة.. عمره ما زعق.. كان بيحب يضحك.. «يهرج».. او يعمل مشهد بالتمثيل يضحكنا.. فاتن اخذت منه الحكاية دى».

تقول «هدى»: «هو كان عاوزنا «نكتب».. أنا مثلا كنت بكتب، فيه مدرسين كانو بيمدحو فى كتابتى، بس ماكنتش بقوله، أكتر من مرة كان بيحاول يعلمنا، لكن ما كناش بنرضى. وأنا فى الجامعة، كان فيه كورس، جزء منه أن كل واحد يحاول يضع نهاية لفيلم.. حصل أن موضوعى فاز واتقرى فى الفصل.. أنا ما قلتش لبابايا إلا بعدها بسنين.. يومها قال «خسارة».. ليه ما قلتيش ساعتها».

كان أسم «نجيب محفوظ» لهدى وفاتن، اسم الاب، حتى بعد نوبل، لا تتمسحان فى الشهرة ولا تستخدمانها، لواسطة أو أى امتياز.. التحقتا بالعمل «زينا زى غيرنا «دون أى إفصاح.

كانت حكايا محفوظ، حواديته للبنات، قصيرة «كجمله» فى البيت، يوصل رسالته «بما قل ودل». تضرب هدى مثلا بحكاية «سنقر» الفأر لا تنساها، والتى لم تزد عن أربع جمل! يتسع حيز الحميمية قليلا.. تقول: «فاتن كانت تحب القصص والشعر.. انا كنت بحب كتب التصوير والفن.. كان ممكن ناخد أى كتاب من مكتبة بابايا، لكن ملاحظته لينا دايما مع «كتب التاريخ»، كان يقولنا اوعو تسلفو الكتاب ده لحد»

ترى هدى أن تسرب الفن، إليها، انما جاءها من رافد «الأم».. حبها للباليه ولسماع الأوبرا، اخذته عن الأم، وأن علاقتها بالرسم، لم تكن إلا تأثرا بصورة الأم التى كانت ترسم، وتعد بترونات التفصيل، وتشغل بأناملها وتطرز.. «سمعتنا الأوبرا والموسيقى الكلاسيك.. كانت تحب كمان أسمهان وعبدالوهاب.. وعبدالحليم حافظً.. فاتن الله يرحمها كانت بتحب اوى عبدالحليم حافظ.. بابايا كان بيحب «أم كلثوم».. هو اختار لى اسم أم كلثوم للسبب ده، وماما اختارت أسم هدى.. كانت عاوزة نور الهدى، بابايا افتكر ان قصدها المطربة نور الهدى، هو قال، لا بقى خليها «أم كلثوم».. اسم أم كلثوم، أنا اتعقدت منه شوية.. من التعليقات وكان فيه مدرسة أمريكية بتناديلى «أم كالو.. ده ضايقنى».. ماما، هى نفسها لم تعلمنا مباشرة لكن منذ كنت فى الحضانة وأول ما رسمت فى الفصل بطة.. روحت البيت لقيتنى ببص فى المرايا وارسم وجهى، وكملت ارسم وشوش.. ماما بدأت تجيب لى كتب ولما كبرت لقيت عند بابايا كتب التصوير.. حبيت رينوار والانطباعيين.. كنت ببقى مبهورة». ملحوظة: امتلك الاستاذ نجيب مجموعة نادرة من كتب الفن، منها مجموعة هربرت ريد، كل كتاب كان يحوى من خمسين إلى ستين لوحة. كان الجزء الأكبر من المكتبة موجودا ببيت الأسرة بالعباسية

«ماما» كانت شخصية مستقلة.. تعمل كل حاجة بإيدها.. ذوقها ميال للاوبرا والباليه، كان نفسها اتعلمهم بس بابايا قال (لا)..

فى المدرسة، لم تكن هدى تشير بأى حال الى كونها بنت الكاتب المعروف.. المشهور فقط حين يصر أحدهم ويسألها مباشرة.. تقول «كنت حاسة بس إنه بابايا.. كان حنين جدا... يقلق علينا جدا.. ويخاف علينا من أقل شئ.. عمره ما طلب حاجة بصيغة أمر كونه مشهور، ده شغله، احنا وعينا لقيناه مشهور، مش فارق معانا مسألة الشهرة.. هو بابانا.. فاتن وبابا كانو ممكن يمثلو مشهد مع بعض وأنا ماما نضحك.. ماما كانت دايما تقوله: أنت بتدلعهم».

قرأت هدى لوالدها وأنا فى الجامعة.. احبت الثلاثية والحرافيش وعشقت فيلم بين السما والأرض «كل مرة ييجى فى التلفزيون، اشوفه واقول لبابايا إنى مبهورة بيه».


 

 

كتير كان يتفرج معانا على التلفزيون.. كان بيحب عبدالمنعم مدبولى جدا.. قدام التلفزيون، كان كتير بيتفرج على اللى نختاره احنا.. ممكن يقرا «جوابا» واحنا قاعدين.. مره لقيناه بيضحك بصوت عالى جدا، وهو بيقرا جواب.. كان واحد باعت له بيقول «عامل نفسك بتاع مبادئ وعالم، وانت بتاع عوالم!..

عندما خرج الأستاذ نجيب إلى المعاش، أول السبعينات، فرحت هدى جدا، لأن ذلك كان معناه، اياما أطول بالإسكندرية.. قبل المعاش لم تكن المدة تزيد عن اسبوعين، ثلاثة على الأكثر بعد المعاش، صار للاسكندرية، ثلاثة شهور كاملة وربما أكثر. تقول «كان عندنا شقة أوضتين فى سان استيفانو.. لم نكن نطل مباشرة على البحر، لكن أمامنا براح.. كان حى جميل، ما كانش فيه مبانى ضخمة أو فخمة، كنت تحسى إن فيه هارمونى بين الفيلل والعمارات وحتى «قصر الضيافة»، كنا جنب قصر الضيافة، ما كناش بنحس بفرق.. نظام الصيف كان مختلف، كنا بنخرج الصبح مع بابايا، وماما، ومعظم الاوقات، أنا وفاتن وماما على البحر، بابايا كان بيقابل أصدقاءه فى فندق الشانزليزيه (بين قوسين، هذا الفندق الذى تم هدمه، امتلكه، بعد رحيل المالك الأجنبى، واحد من محبى الثقافة، وكان معظم زبائنه فنانين وكتاب، ويقال أن الملك كانت له قبل الثوره، حجرة واسعة فى قبو داخلى، للعب الورق)، او فى بترو بعد هدم الفندق.. كانت بلكونة الشقة مكان مفضل له.. يقرا.. يتأمل.. سيبنا الشقة لصاحب العمارة بعد محاولة الاعتداء.. بابايا شاف أنه صعب وتعب على الحرس، أنه يتحرك بيهم فى اسكندرية كمان.

بين اعوام ١٩٨٤ و١٩٩٤، كانت فترة خاصة فى العلاقة بين الأب وبنتيه..كان السمع قد بدأ يخف، وبدأت «صحبة» من نوع جديد.. تقول «كنا بناخد بابايا فى العربية ونخرج.. كانت فاتن بتحب تسمع محمد منير، وتعلى الصوت عشان يسمع.. هو حب أوى محمد منير.. كنا نذهب أحيانا كثيرة إلى الجمالية والحسين.. نتمشى ويورينا، أنا كنت عايش هنا، ودى مدرستى، يحكى لنا عن ذكرياته وعن الملوخية اللى كان يشم ريحتها قبل البيت بمسافة، ويدخل البيت وهو بيصرخ ( عاملين ملوحية ) وينطقها بالحاء كما كان يفعل وهو صغير، ونضحك ويضحك.

تحمل هدى مسا من الذكريات عن بيت «العباسية «الذى ذهب اليه قرب الثانية عشرة من عمره، بعد طفولة بيت القاضى. انتقل محفوظ مع أسرته إلى العباسية، منذ عام١٩٢٤ وحتى زواجه.تستحضر ذلك البيت «الملك» - بكسر الميم -الفسيح بأدواره الثلاثه.. كل دور كان مخصصا مخصص لولد، لنجيب شقيقان وأربع شقيقات و»الأم فاطمة»، التى على اسمها سميت الابنة الصغرى (فاتن وهى فاطمة أيضا) الجدة، أم نجيب، التى تسكن الدور الثالث،.. والتى حمل لها نجيب حبا جارفا، بحكم كونه الصغير الذى جاء بعد خمسة عشر عاما ممن سبقه من أشقاء كانت تصحبه معها أينما ذهبت.. فى زياراتها للأهل والجيران والحدائق والمتحف المصرى.. تصفها هدى: «بيضاء بشعر ناعم منسدل.. بالمناسبة كما تقول هدى «كل العيلة شعرها ناعم»'، لكن أجمل الجميلات كانت أصغر شقيقاته التى توفيت بدرى.تقول «هدى»: «كنا نروح بيت العباسية واحنا صغيرين.. كنا بنحبه جدا وبنحب عمتنا زينب.. كان دمها خفيفا جدا.. تتكلم «وتنكش» فاتن ونضحك.. عمى محمد ومراته كان قريب لينا كمان، وابن عم بابا ومراته.. أعتقد أنى عرفت أن جدتى كانت عاوزة تجوز بابايا لأخت زوجة عمى، لكن هو كان رافض لأنها كانت من أسرة غنية جدا وهو كان عامل حساب للفرق ده.. يمكن عشان كده اخفى خبر زواجه من ماما عن جدتى لفترة، لكن المهم أن زوجة عمى لم تغضب وفضلت قريبة من ماما..فى أيام زيارتنا لبيت العباسية، كان يدخل ينام «الضهر». فى - اوضته - الاوضة فيها سرير ومكتب ومكتبة وجرامفون واسطوانات.. وسجاده كبيرة عجمى.. اونكل....، اخذ كل الحاجات اللى فى اوضة بابايا، إلا الاسطوانات والسجادة.. دول احنا اخذناهم». ( ملحوظة: كان «القريب» المثير غير المريح، لأسرة «الاستاذ»، بعد رحيله.. استحوز واقتنص، وباع، بغير حق، وتشك هدى، فى أنه عن طريقه، خرج جزء من مقتنيات محفوظ، التى كانت موجودة فى بيت «العباسية»، ووصل هذا الجزء إلى واحد من الكتاب الصحفيين المعروفين بعلاقاتهم، دخل حياة الأستاذ بعد نوبل، وأن هذا «الصحفى»، الذى ذكرت اسمه، قد تصرف فى هذه المقتنيات، ومنها مخطوطات، واشياء تخص محفوظ، وأن والدتها كانت تواجهه، بل إن محفوظ نفسه، قد أدرك جزء من حقيقته، قبل الرحيل، لكن «بابايا كان مجامل بزيادة» كانت ممارسات القريب واحد من المذاقات المرة - بضم الميم - التى اسفر عنها، المرض الاخير، ثم رحيل «الاستاذ نجيب» عام ٢٠٠٦.. كان رحيله كاشفا لمقربين، وأكثر من مقربين.. لكن ماقبل الرحيل ايضا.. فترة المستشفى بعد الاعتداء على الأستاذ.. لا تحب ابنة الأستاذ هذه الفترة.. تقول أن هذه الفترة فاجأتها بصورة بعض الذين تواجدوا فى حياة أبيها، «كان فيها تدنى» هكذا تصف الأمر.. ذلك الشخص الذى نصب من نفسه وصيا، ليس على الأستاذ نجيب، بل على أسرته والذى كان يقرأ لنجيب محفوظ وهو فى العناية المركزة، «روايته» هو بعدما ظهرت عليه مؤخرا «أعراض روائية»، والآخر كما تقول ابنة محفوظ، ذهب إلى إدارة المستشفى، طالبا استبقاء الاستاذ فى المستشفى، لأنه «مش مرتاح فى بيته»، تقول هدى: «فى مرة الشخص ده قالى «هو» (يقصد محفوظ)، بيحبنا (يقصد اصحاب محفوظ) أكتر منكم!، ومرة سألنى: باباكى بيضربك؟ وكمل: كان لازم يضربك!! وبعد ما استعاد الأستاذ شيئا من صحته وبدأ يخرج، تستغرب هدى، أن هذا الشخص كان يطلب من أبيها، أن يذهب إليه فى مكان عمله، ويسير معه فى حديقة المكان، قبل أن يصطحبه للخروج للندوة! لا تكف عن ذكر أحدهم الذى تقول هدى أنه دخل الى حياة أبيها فى ظرف جائزة نوبل، دونما اختيار من نجيب، ثم استوطن واستفاد، وتحول من مجرد دخول طارئ، الى إقامة واستفادة.. وتدخل سافر حتى فى «الهبة» التى قدمها نجيب محفوظ من جائزته.. تقول هدي: «كثيرون اساءوا الى اسرة نجيب محفوظ، بعد رحيله وكانو ا قريبين منه فى حياته.. لما «عاشرناهم» فى المستشفى بعد الاعتداء على بابايا، اتفاجئنا، بعضهم كان مستفزا، والبعض كان - بيروج - اشاعات عن بابا وماما.. الغريب ان كان فيه اصرار من بعضهم أنهم يبينوا أنهم أقرب لبابا مننا، ودى حاجة غربية جدا!!أحدهم، كان متزوجا وعنده اولاد وتقدم للزواج من فاتن ولما رفضنا، لم يتوقف، ومراته كلمت ماما.. ماما كانت حاسة كأن زوجته كانت عارفة، وأنها مؤامرة، نفس الشخص ده اكتشفنا، من الحرس، انه كان بيسرق والدى.. فيه ناس منهم بوظت علاقة بابايا بتوفيق صالح، ولا ماما ولا مدام توفيق قدرت تعرف ايه سبب اللى حصل».

لسنوات مرضت السيدة عطية قبل رحيلها، لم نسمع عن أفواج تسأل وتطمئن، تلا غيابها سبع سنوات عجاف أخرى، افترس خلالها المرض الشرس، «فاتن»، واقتصرت جنازتها على ثلاثة: أختها «هدى»، والأخران كان حضورهما حتميا، لموراة الفقيدة والترحم وقراءة القرآن..

لم يخرج «هدى» محفوظ عن ميلها للصمت وتجنب الزحام إلا الشديد القوى..

وأيضا «المر قوى» وليس أشد ولا أمر من كشف المستور، فى ارواح وأفئدة حومت ثم استدارت وانقلبت.

 

 

التعليقات