المصلوب على «مذبح العقلانية»

سخر المعاصرون لـ«غيلان الدمشقى» من أفكاره حول الإرادة الفردية والحرية الإنسانية، واتهموه وأصحابه بالغباء. تجد هذه الفكرة حاضرة فيما يرويه «ابن كثير» حول المناظرة التى وقعت بين إياس بن معاوية بن مرة الملقب بـ«إياس الذكى» وغيلان الدمشقى. يقول «ابن كثير» إن وصف «الذكى» خلعه الناس على «إياس» وهو يحمل تعريضاً حال استدعائه فى مقام المناظرة مع غيلان الدمشقى (الغبى)!. يقول «ابن كثير» فى وصف «إياس»: «وكان إياس فقيهاً عفيفاً وقدم دمشق فى أيام عبدالملك بن مروان ووفد على عمر بن عبدالعزيز، وقال يعقوب بن سفيان: كان يقال يولد فى كل مائة سنة رجل تام العقل فكانوا يرون أن إياس بن معاوية منهم»!.

صدفة جمعت كلاً من إياس وغيلان فى لقاء خلال أحد مواسم الحج، فمكثا 3 أيام لا يكلم أحدهما الآخر، ثم تحادثا فتعارفا وتعجب كل واحد منهما من اجتماعه مع صاحبه لمباينة ما بينهما فى الاعتقاد فى القدر. قال إياس لغيلان: «هؤلاء أهل الجنة يقولون حين يدخلون الجنة الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله، ويقول أهل النار ربنا غلبت علينا شِقوتنا، وتقول الملائكة سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، ثم ذكر له من أشعار العرب وأمثال العجم ما فيه إثبات القدر». عند هذا الحد يتوقف «ابن كثير» وكأن المناظرة كانت من طرف واحد، فهو يذكر ما قاله «إياس» ولا يعرض رد «غيلان» عليه. من المؤكد أن «غيلان» رد، لكن يد «الرقيب التاريخى» تدخلت فاستبعدت رده، واكتفت بعرض وجهة نظر «إياس» وفقط، انطلاقاً من اعتقاد «ابن كثير» بأن وجهة نظر «إياس» هى الصائبة ولا يوجد داعٍ لذكر وجهة النظر الأخرى التى تبنَّاها «غيلان» لأنها خاطئة!.

يذكر «ابن كثير» اجتماعاً آخر ضم كلاً من إياس وغيلان أمام الخليفة عمر بن عبدالعزيز، فناظر بينهما، فقهره إياس وما زال يحصره فى الكلام حتى اعترف غيلان بالعجز وأظهر التوبة. من جديد يهرب «ابن كثير» من رواية تفاصيل المناظرة ويكتفى بالقول بأن إياس أفحم وأعجز «غيلان»، فما كان من الأخير إلا أن أظهر التوبة، ولكن لأن الكذب مبتور القدمين فقد استكمل «ابن كثير» كلامه قائلاً إنه لما «اعترف غيلان بالعجز وأظهر التوبة دعا عليه عمر بن عبدالعزيز إن كان كاذباً فاستجاب الله منه فأمكن من غيلان فقتل وصلب بعد ذلك ولله الحمد والمنة». والسؤال: هل كان عمر بن عبدالعزيز يفتش فى نوايا البشر؟. وكيف له أن يدعو على رجل من المسلمين بعد أن أظهر التوبة عن أفكاره؟.

يموت المفكر لتعيش أفكاره من بعده. كذلك انتهى المطاف بغيلان الدمشقى، حين غضب عليه بنو مروان الذى اتخذه خلفاؤهم ومنهم عمر بن عبدالعزيز مشيراً وناصحاً، قرر هشام بن عبدالملك قتله، فقطع أوصاله ولسانه ثم صلبه، وظن بنو مروان أنهم تخلصوا من أفكاره إلى الأبد، لكن فى الوقت الذى ذهبت فيه روحه إلى بارئها دبت الحياة فيها فأخذت فى الانتشار حتى داخل البيت المروانى الذى قرر طرده من ربوعه. يقول «ابن كثير»: «لما ولى يزيد بن الوليد بن عبدالملك بن مروان الذى يقال له الناقص دعا الناس إلى القدر وحملهم عليه وقرّب أصحاب غيلان». ولا يخلو كلام «ابن كثير» من غرض وهو يذكر اعتناق يزيد بن الوليد لأفكار «غيلان»، فيعرض به قائلاً (الذى يقال له «الناقص»)، ولا خلاف على أن استحضار هذا الوصف فى سياق الحديث عن «غيلان» لا يخلو من دلالة، ويشهد على الموقف الرافض الذى تبناه المؤرخون المسلمون من رافعى راية التفكير العقلانى فى التاريخ الإسلامى.

التعليقات