عندما جددت التكنولوجيا «الخطاب الدينى»

حدثتك -خلال الأيام الماضية- عن واحدة من أقدم وأخطر محاولات تجديد الخطاب الدينى، والمتعلقة بموضوع «خلق القرآن»، وحكيت لك أن بعض فقهاء العصر الأموى تبنّوها، فواجههم الخلفاء بالذبح والصلب، وأن الوضع تعاكس بعد ذلك فى العصر العباسى، حين بادر الخليفة المأمون، ومن بعده المعتصم، إلى تبنى مسألة «خلق القرآن»، فى محاولة لتجديد الخطاب والتفكير الدينى للمسلمين، وهى المبادرة التى قُوبلت برفض قاطع وعناد مرير من جانب مؤسسة الفقه، التى كان يتصدّرها حينذاك الإمام أحمد بن حنبل. هذه التجربة الكبرى ناطقة بحقيقة أساسية تقول إن تجديد الخطاب الدينى إرادة اجتماعية وثقافية للأمة قبل أى شىء، فليس فى طاقة مؤسسة الفقه أو مؤسسة الحكم فرض التجديد بإرادة فوقية، بل تخضع المسألة لتفاعلات زمنية جوهرها اختلاف أدوات الحياة، خصوصاً الأدوات التكنولوجية. فمع اختلاف هذه الأدوات عند الانتقال من فترة تاريخية إلى أخرى، يتجدّد الخطاب الدينى.. هكذا تقول التجربة التاريخية.

عندما ظهرت الكهرباء، اختفت الكثير من قصص الجن والعفاريت والأشباح، التى كانت تسندها فهوم دينية خاطئة لبعض الآيات، التى تتحدث عن الجن. وبعد أن كانت هذه الأفكار تتسكع فى شوارع مصر، بما فيها شوارع القاهرة، وتتقبّلها وتتداولها الكثير من الأسر التى عاشت خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما تسجل الكتب التى أرّخت للحياة الدينية للمصريين فى ذلك الوقت. هذه الأفكار والفهوم لم يعد لها وجود إلا فى حدود ضيّقة، وأصبح من يقول بها موضع سخرية المحيطين به، وأصبح تسويقها وترويجها موضع مساءلة واتهام بالترويج للدجل والخرافة. إذن الكهرباء تمكنت من هزيمة الجن والعفاريت، وصحّحت مفاهيم خاطئة فى العقل الدينى للمصريين.

دعنا نعود إلى الوراء أكثر، لنصل إلى تلك الفترة التى دخلت فيها المطبعة إلى العالم الإسلامى. تقول كتب التاريخ إن العرب والمسلمين عرفوا المطبعة فى عصر الدولة العثمانية، وإنه عند عرض هذه الآلة الجديدة على السلطان العثمانى لأول مرة أفتاه علماء دينه بأنها «رجس من عمل الشيطان»، وإنها بدعة شيطانية أراد الغرب بها أن يضرب «سنة النسخ» التى ورثها المسلمون عن الصحابة الأوائل!. الأمر وقتها بدا عادياً، وقد أدى موقف السلطان هذا إلى تأخر دخول المطبعة إلى العالم الإسلامى، لكن الآلة الجديدة تمكنت من التسلل والتغيير، لتسكن ديار المسلمين، وتصبح الأداة الأهم لإنتاج المصاحف.

دعك من العثمانيين، وانظر إلى المصريين وموقفهم من الراديو عندما دخل البلاد أوائل القرن العشرين. لقد نظر إليه بعضهم كعلامة من علامات يوم القيامة: «الحديد يتكلم». ومن عجب أن من ردّدوا هذا الكلام أشخاص يؤمنون بكتاب يشتمل على سورة كاملة عنوانها «الحديد»!. هذا الكلام نُردّده اليوم على سبيل النكتة، لكنه كان يمثل فكراً راسخاً ومتماسكاً فى حينه، إنها التكنولوجيا التى تمكنت من قهره وتغييره. التكنولوجيا تغزو العقل وتهز القناعات أكثر من أى قرارات سلطوية، سواء كان مصدرها السلطة الدينية أو السلطة الزمنية. والناظر إلى تاريخ المسلمين سيجد أن دخول عنصر تكنولوجى جديد أو أداة مختلفة من أدوات الحياة عادة ما يصحبه أو يصحبها تغير وتطور فى الخطاب الدينى.. وأكثر هذه التحولات يتعلق ببعض ما تنقله كتب الأحاديث والتاريخ الإسلامى.

التعليقات