كلكم على رجل واحد ضعيف..!

موقف إنسانى عجيب ذلك الذى يتكاثر فيه عدد كبير من الأفراد على فرد واحد ضعيف من أجل سحقه ومحو اسمه من سجل الوجود. هل يمكن أن يستفز شخص واحد المجموع إلى هذا الحد؟. هل يمكن أن توجعهم كلماته إلى هذه الدرجة، فتدفعهم إلى التكاثر عليه وافتراسه؟. ثم أيهما أفضل للمجموع المتذمّر من كلام فرد واحد: ترك صاحبه يغرّد بما يريد.. أم تحطيم رأسه وإسكات صوته؟. هذه الأسئلة وغيرها يثيرها ذلك الموقف العجيب الذى خاضه الصحابى عبدالله بن مسعود، حين قرر تحدى عرب مكة وشرع فى تلاوة القرآن فى جوف الكعبة، فتكاثروا عليه، وأخذوا فى ضربه وركله حتى أوشك على الهلاك بين أيديهم وأرجلهم.

كانت الدعوة الإسلامية تعيش مراحلها الأولى، ولم يكن قد آمن بالنبى، صلى الله عليه وسلم، سوى 5 أشخاص، كان عبدالله بن مسعود سادسهم. لم يكن «ابن مسعود» أكثر من راعى غنم أجير يعمل عند عقبة بن معيط، أحد وجوه قريش. لا يتمتع بقوة جسدية يستطيع الاستقواء بها فى الدفاع عن نفسه، بل كان ضعيف البنية هزيل البنيان. لم يكن له عشيرة تحميه من غضب عرب مكة، بل كان فرداً وحيداً يعيش بطوله دون سند. رغم الظروف التى أحاطت بـ«ابن مسعود»، استجاب لدعوة النبى، صلى الله عليه وسلم، وآمن برسالته. وفى الوقت الذى كان يخشى فيه كبار المؤمنين الخروج إلى جوف الكعبة، وإسماع قريش كلام الله المنزل من السماء، قرر الضعيف «ابن مسعود» أن يفعلها، اختار الزمان وقت الضحى، والمكان أمام الكعبة، حيث يتجمع أهل مكة، ثم شرع يتلو آيات من سورة «الرحمن». وما إن سمعه عرب مكة حتى أمروه بالسكوت وابتلاع لسانه، فأبى، امتدت يد أحدهم إليه بالضرب، واصل، تكاثرت الأيدى التى أصرت على النيل منه، واصل، امتدت الأرجل لتركل جسده الضعيف، فتاه صوته فى بحر الغضب الذى قوبل به من جانب عرب مكة، وكاد يهلك بين أيديهم وأرجلهم، حتى صرخ صوت عاقل فى المتكاثرين على «ابن مسعود»، قائلاً: «كلكم على رجل واحد ضعيف»، واستخلصه من أيديهم.

أوجعت الكلمات القرآنية التى ترنّم بها عبدالله بن مسعود قلوب عرب مكة، كانوا يعلمون أن ما تشتمل عليه من قيم ومبادئ وقواعد إيمانية تشكل تهديداً حقيقياً لدولة المصالح التى أفلحوا فى ترسيخها، لذا كانت ثورتهم عظيمة على أى صوت يجهر بالنص الذى يعادى دولتهم، التى تأسست على مفاهيم «الشرك والاستعباد»، لكن أيديهم وأرجلهم التى امتدت إلى الضعيف عبدالله بن مسعود لم تمنع الرجل من العودة فى اليوم التالى، والجهر بما يغيظ العرب من كلام الله، حتى انتصرت دعوة النبى. ظل «عبدالله» مخلصاً لما يؤمن به حتى بعد أن دانت مكة والمدينة بالإسلام، واتسعت ربوع الدولة، لتشمل ما حولها. عاش «ابن مسعود» حتى أدرك عصر عثمان بن عفان، وكان معارضاً شرساً له، أطاح به الخليفة من ولاية الكوفة، لكنه أصر على ما هو عليه، منعه الخليفة راتبه ومعاشه من بيت المال، لم تلن عزيمته. ظل الرجل المؤمن متمسكاً بما هو عليه، حتى لقى وجه ربه، وكانت آخر كلمات تردّدت على لسانه: «شر العمى عمى القلب».

 

التعليقات