في محبة " محمود عبد العزيز ".. الذي " يشبهنا"

. رحت اردد اسمه ، وداخلي خيمة واسعة من شجن مختلف ، لانه حتي في اطار " عقد مصر النفيس " ، و "حوزتها "من الدرر، هو "مختلف" .. مختلف بقدر ماهو جزء منا.. من الفتنا الخاصة .. هو يشبهنا رغم "تفرده" ، او ان "تفرده" نابع من كونه "يشبهنا " .
. ليس مجرد ، عبقرية اداء ، ولا تنوع اختيارات ، ولا حتي قدرة تجعلنا نصدقه في اي صورة ، الاهم انه ليس غريبا عنا .. الاهم انه "يشبهنا".. ثمة شعور ، لا احسبه قاصر علي ، بأنه حته من "خلطة مصرية" ، كل مرة نراه فيها ، يكون عاكسا لتابل من هذه الخلطة ، لزاوية من مرايانا العاكسة ، حتي وان كانت الزاوية مطمورة ، او استثنائية ، او غير ظاهرة للعيان .. في عينيه مس .. راقد بمزاق مصري موغل في " الالفة" .. نعم" الالفة" هي الكلمة التي حيرني " الامساك" بها و بحثت عنها لايام ، والتي وجدتها مفتاحا "لحالة " فنيه ، اسمها محمود عبد العزيز ، لم تفصح رغم تعددية الادوار وتنوعها ، عن طبقات زخمها .. زخم يرقد فوق فرشة من "الحزن "المصري ، حتي وهو يجعلنا نعيش في "اوج " من الضحك .. تخرج الضحكة سلسة .. طبيعية ، متخطية تعبا يلازمنا ، حتي ولو لم نعيه ، تلوح من اغوار بعيدة وتمتد وتطول لكنها ليست "قهقهات " ترج الفضاء .. كل مرة يطل فيها عليك ، انت تلتقي ببعض " منا" بعض لا تستغربه ولا تبذل مجهودا لتقيم معه " الوصل" ، فحبال الألفة قد وفرت عليك المشوار واختصرته ، و ما عليكما الا استئناف حوار المشاعر، رايح جاي،
.. قبطان .. ساحر ...عمدة .. صحفي .. موظف .. سجين .. عاشق .. سواق .. طالب.. برئ .. متشرزم .. مكدود.. طبيب .. صنايعي .. بطل وطني .. مزاجنجي .. فتوة .. زوج ، هو يأخذ "منا"، ويرد ه الينا .. عفوا، هو لا يأخذ ، لان ما يعمل به ، ما يغزل منه ، موجود فيه بقدر ما هو فينا ..
يمكن جدا والاسهل بالنسبة الي ، التوقف عند مفردات " محمود عبد العزيز " الفنية ، دور .. دور ، او علي الاقل ، علامات طريقه وبالذات " ملحمته" في رأفت الهجان .. وقصيدته في" الكيت كات "، رومانسيته منذ " حتي اخر العمر" و " العذراء والشعر الابيض" ، جموح القبطان ، فلسفة " سوق المتعة ،"، خفة ظله ، في " الشقة من حق الزوجة " ومشهد الغسيل علي صوت احمد عدويه ، واغنية " زحمة يا دنيا زحمة"، و ضحكات منه ومنا ، بطعم الطعمية الطازة المقرمشة المليانه " خضرة ، المقلية في زيت " اول وش ".. والتي لا تحتاج لا منه ، ولا منا ، لاي مجهود ، لتحدث أثرها والذي من بعده تحس صفوا وحنينا ، للحظة مغارب صيفية .. لبلكونة بحرية فيها اصص زرع ، منه " الريحان " والياسمين البلدي ، و" سبت" في الزاوية مربوط في يده حبل قطني ، طوله كاف ، كي يتدلي وقت اللزوم ، في اليوم اكثر من مرة ، ويركن في الزاوية عند المساء ، تاركا المساحة لمقعدين ، وكوبين من " الشاي بالنعناع" ، ومساحة من الرضا .. والحلم !
لم استشعر محمود عبد العزيز بالنسبة الي شخصيا ، مجرد "انجاز ،" او منجز ، او مجرد " موهوب" علي ان اعدد مآثره ، ولا كان شجني لمجرد أن "حبة لؤلؤ " ، تدحرجت من عقد ينفرط ، او يكاد ، ولما استبطنت نفسي ، اكتشفت ، ان هناك مساحة من الاغتراب سوف تضاف الي خارطتي ، وربما " خارطتنا" ، لان واحدا من الذين يشبهوننا ، ونحس معهم " بالألفة " ما عاد لديه متسع كي ينصت الينا ، ويأخذ منا حبل " الوصل" ويعيده .. و أن " خصما " اخر من " الونسة" قد اضيف الي الرصيد.
 
. في مارس ١٩٧٦ ، كنت في النوبة ، معبد ابوسنبل ، وجزيرة " فيلة" ، في صباح يوم ، حول مائدة الافطار ، عرفت بخبر رحيل عبد الحليم حافظ .، كان اغرب رد فعل هو ما ساورني في تلك اللحظة ، انا نفسي استغربت نفسي ، قلت لمن كان معي " لم يكن بمقدوره ان يتحمل او يعيش، ما يجري .. و سوف يجري" .. كنت أعني ان عبد الحليم ، ليس مجرد فنان ، لكنه " زمن " .. ربما أو " حالة" فنية ، "حالة صادقة "ترتبط بعدة شرايين و أورده ، تمدها بالحياة ، ربما استشرافي كان ذاهب باتجاه تقطع تلك الشرايين والاوردة ، او جفافها وتيبسها ، واحدا بعد الاخر . يخيل الي ، ان درجة بعينها من " الصدق" مع النفس ، قد يصبح معها الاستمرار في الحياة " صعبا ، فيكون الرحيل ، رحمة بهذا الصدق ، قضاء ارحم الراحمين .
 
محمود عبد العزيز، في " ألفته " هو قادم من "لحظتنا "، أو علي الاقل" لحظتي " التي لا أتوه عنها ، ببراءتها لما كانت بريئة .. وتيهها الذي آلت اليه ، وما بينهما من : توق وحب و وطنية و التباس و فرح وكد وقهر وحلم وسعي ، وسخرية ، وبطولة .. و مرارة ، و أمل ، وهو ايضا كان " رسول كل هذه المعاني بتجلياته الفنية ، و "قوس" ابداعه الغني ، "الودود".. نعم ابداعه ودود ، بعينين دوما مثقلتان بالنقيضين ، الحزن والفرح ، الاستكانة والشقاوة ، الاسي والحلم .. في ملحمته عن رأفت الهجان لحظتان من الضجيج الصامت الهادر المكتوم ، الجياش كتمانا وصراخا : ساعة تلقيه خبروفاة عبد الناصر ، وكان عليه ان يرقص مذبوحا من الالم ، لحظة اعلامه بعبور الجيش المصري ، فيبكي حزنا وتسيل دموع الفرح .. و في قصيدة ادائه بفيلم الكيت كات جموح وجنوح ، وتحد للعجز وشوق للحياة لا يقل بحال التانجو الشهير لالباتشينو .. في عطر امرأة ، مواجهة وانكشاف براءة في العار ، تحول الفطرة وانحرافها ، تحت وطأة القيد والسجن وهول التحول الانساني بفعل وئد الطبيعة الانسانية وراء القضبان ..
 
روي زميلنا الشاعر جمال بخيت ، انه في لقاء شعري ، ايام الاخوان ، القي خلاله بخيت قصيدته البديعة " دين ابوكم ايه" ، فوجئ بعبد العزيز يرتمي في احضانه مجهشا بالبكاء ، وهو يتساءل : حا يعملو في مصر ايه ياجمال ..؟ هو واحد منا .. يفتك به خوف علي مصر التي عرفناها ، هو " واحد" ، لا ينقسم علي نفسه ولا يتخارج منها ليمثل ، لانه لا يمثل ، هو ينوب عنا لنري انفسنا في مشاهده ، او مشاهدنا . في الآونة الاخيرة ، كان يلجأ في تصوري ، وانا لم التقيه ولا مرة ، الي نوع من " الكمون" .. الي صمت كأنه " احتجاج" ، يتحول الي علامات استفهام في اعمال عبد العزيز ، الي اسئلة كانت علي السنتنا ، كأنها في العمق والبساطة اسئلة تشبه اسئلة الصغار ، التي هي اعظم الاسئلة : " ايه اللي جرلكم يا مصريين" ، " بتعملوفي مصر كده ليه " .. اظنه كان ذروة الحضور ، ينوب عنا ، وعن اسئلتنا التي هي اسئلته ،واتصور ان كشفا يسبق "الاستئذان بالرحيل" ، يكون ضاغطا بالاسئلة .. الاسئلة التي فاتها لنا دون اجابة ، او لم ينتظر ان يري بنفسه اجابة عليها ، كأنما اتعبه الانتظار ، كما انهكنا نحن السعي وراءها .
محمود عبد العزيز ، بعض منا ، بلغ "اوجا".
. من التعب..؟ ، ربما .. ، من البذل . . ؟.ربما ...
بعض منا .. رحل . 
التعليقات