الكدب خيبة

عندما وقف أبوسفيان بن حرب أمام محمد صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الدخول فى الإسلام طرح عليه النبى مجموعة من الأسئلة كان من بينها سؤال: تبايعنى على ألا تكذب؟. أجاب «أبوسفيان» على السؤال إجابة عجيبة فقال للنبى: «أوَيكذب الرجل؟!».. هو فيه راجل بيكدب!. كذلك كان لسان حال «ابن حرب» فالرجل لا يحتاج إلى الكذب لأنه ليس ضعيفاً أو عاجزاً عن تحمُّل مسئولية أفعاله. أراد «أبوسفيان» أيضاً أن يقول إن خُلق الصدق لا يرتبط بدين أو عقيدة، فمشركو العرب كانوا صادقين، لأن الصدق والبعد عن الكذب لا علاقة له بالدين بل بالتكوين. كذلك كان يفكر أبوسفيان بن حرب وغيره من العرب. وموقف المشركين من «محمد» كان موقف تكذيب، فهم لم يتهموه بالكذب، بل كان لقبه بينهم قبل البعثة: «الصادق الأمين»، وكل ما فعلوه -فى أغلبهم- أن كذبوا حديثه، وكان بعضهم يفعل ذلك بلسانه، حتى يفض الاشتباك بين قناعته فى صدق «محمد» كشخص وتكذيبه للرسالة التى جاء بها. يقول الله تعالى: «وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً».

أشار الله إلى صنف من البشر جعلوا الكذب والتكذيب مصدراً لرزقهم فى الحياة: «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ». أجد هذا المعنى من أخطر المعانى التى أشار إليها القرآن الكريم. فوجود أصناف من البشر تحترف الكذب وتجعله صناعة تسترزق منها داخل أى مجتمع لا بد أن يأتى بالوبال على أهله. فانتشار الكذب بين أية مجموعة بشرية يعبر عن وصولها إلى أقصى درجات الضعف والعجز عن المواجهة، الحياة التى تنسجها الأكاذيب التى تتردد على الألسنة وتستقبلها العقول رغم علمها بعدم صدق مَن يرددها حياة هشة ضعيفة. لقد مكث النبى صلى الله عليه وسلم يدعو أهل مكة ما يقرب من 13 عاماً فلم يؤمن به سوى العشرات من قومه، ما يمنحك مؤشراً على صلابة المواجهة التى خاضها المجتمع المكى مع النبى، والأصل فى ذلك أن أفراده كانوا صادقين مع أنفسهم، ويؤمنون أن الكذب ليس من شيم الرجال، ومكثوا كذلك حتى هداهم الله تعالى للإسلام، فانطلقوا فى بناء دولة، لها ما لها وعليها ما عليها، لكنها بحال لم تكن دولة كاذبة أو يديرها مجموعة من الكذابين.

«معاوية» -ابن أبى سفيان الذى تعجَّب قائلاً: «أوَيكذب الرجل؟»- كان يزن نفسه بصورة موضوعية حين يقارن حكمه بحكم أبى بكر وعمر من قبله، لم يكذب أو يراوغ وهو يصف نفسه قياساً إلى الشيخين أبى بكر وعمر، كان يقول: «أما أبوبكر فلم يُرد الدنيا، وأما عمر فأرادته فلم يُردها، وأما نحن فتمرغنا فيها ظهراً لبطن». وانطلاقاً من هذا الوعى العميق بالذات استفرد «معاوية» بالحكم بتعامل مباشر لا كذب فيه. قل على «معاوية» العربى العتيد كل ما تريد، لكنك لا تستطيع أن تتهمه بالكذب أو الجبن عن المواجهة أو التلكؤ فى تحمُّل نتيجة أفعاله. كذلك كان موقع «الصدق» فى حياة العربى قبل إدراك الإسلام وبعد الدخول فيه، فكلهم كان يعلم أن «الكدب خيبة».

 

التعليقات