العودة إلى رأفت الهجان

تطورات عدة تعيدنا هذه الأيام إلى "رأفت الهجان"، أهمها أن أجيالًا تشاهد المسلسل الشهير لأول مرة، والذي تعرضه قنوات فضائية مصرية تزامنًا مع احتفالات أكتوبر، بالإضافة إلى الأجيال التي شاهدت المسلسل للمرة الأولى، ولم يستطع شيء إيقاف شغفها بمتابعته، في مصر وفي الدول العربية، وكذلك في إسرائيل، وإلى وقتنا الراهن.

وضعت المخابرات العامة المصرية في يد الكاتب الكبير "صالح مرسي" ملف "رفعت الجمال" ليصنع منه واحدة من أهم روايات الجاسوسية في العالم، وأدب الجاسوسية ليس جديدًا، ومارسه كتاب كثر خصوصًا من الكتاب الإنجليز، وكتب الأستاذ صالح المسلسل، بعد أن حول الأوراق والمراسلات الجامدة إلى شخصيات تتحدث وتتصارع وتشعر وتقلق، كما في بحثه الدءوب في كل أعماله عن قيمة الإنسان.

ربما لم يكن الكاتب الكبير يرغب في الإعلان عن الاسم الحقيقي لبطله "رفعت الجمال" ليظل "رأفت" محتلًا الساحة اسمًا وشخصيةً وجسدًا، وربما أملت ضرورات مخابراتية الإفصاح عن اسمه الحقيقي، أقلها أن إسرائيل فور عرض الجزء الأول من المسلسل أنكرت وجوده.. لكن شخصية "رأفت" - وقد عرفنا منه نحن تلاميذه وأصدقاؤه - هي الأقرب إلى وجدان الكاتب من بين كل أبطال أعماله السابقة واللاحقة.

رأفت الهجان استطاع - كما جسد المسلسل - بناء شبكة علاقات قوية مع كبار السياسيين في إسرائيل، وفيما بعد ذكرت زوجته في مذكراتها أسماء: بن جوريون، وجولدا مائير، وعزرا وإيزمان، وموشيه ديان، وتيدي كوليك، حتى إن ديان رشحه وزيرًا؛ لكن الجمال رفض.

أزمة رأفت الحقيقية أنه نبه للعدوان الإسرائيلي في عام 1967، وجاءت الطامة الكبرى في صدمته برحيل عبدالناصر عام 1970، فقرر عدم استكمال المهمة؛ لكنه سرعان ما تماسك، وأكمل حتى نصر أكتوبر 1973؛ حيث انتهت عمليا.

وقطعًا هناك أشياء كثيرة لم يفصح عنها المسلسل من منطلق تشابك مهمة رأفت مع عمليات أخرى لم يشأ الجهاز الكشف عنها.

رفض الأستاذ "صالح" شرط الفنان الكبير عادل إمام على تغيير تقنية "الفلاش باك"، التي اعتمدها لسير الحلقات، باعتبار الأمر سيكون مكشوفًا للمشاهد من اللحظة الأولى، وبالتالي فقدان متعة الترقب لما سيحدث.

وعندما يصر الأستاذ "صالح" على ما كتبه، ومع منطق الفنان عادل إمام المبرر، ذهبت البطولة إلى الفنان الكبير محمود عبدالعزيز.

لكن الأهم هو أنه لا أحد، أو ليسوا كثيرين من الكتاب والمخرجين (المسلسل إخراج يحيى العلمي) يستطيعون بـ"الفلاش باك" وضع المشاهد في الأسر والاحتفاظ به طوال حلقات المسلسل، الذي نعرف جميعًا نهايته، وهو ما تحقق مع رأفت الهجان بسبب إبداع الأستاذ صالح وحساسيته اللتين يتميز بهما.

ولما ذهبت البطولة لمحمود عبدالعزيز فقد أدى أهم مسلسل في حياته، وبرع في تجسيد الشخصية التي انتقل عشقها إلى المشاهدين، لدرجة أن بعض الأصدقاء المشتركين للأستاذ "صالح" والذي، بات يقلده منذ الحلقات الأولى في طريقة كلامه، وفي محاولة تصفيف شعره، وخصوصًا في ارتداء حمالات البنطلون، وفي محاولة إضفاء بعض السرية على حياته ومراسلاته، ثم فيما بعد في علاقاته النسائية.

هذا التماهي التام بين "رأفت" ومحبيه هو الذي خلد المسلسل حتى الآن، كما أن محمود عبدالعزيز انتقل درجات في إنجازه الفني، وإذا شئنا الدقة فإنه يعد فيلم "العار"، ثم "رأفت الهجان"، ثم فيلم "الكيت كات" هي الثالوث الذي حفر اسم محمود عبدالعزيز في تاريخ الفن المصري.

لقد احتفلت مصر بمسلسل "رأفت الهجان"، كما عُقدت الندوات لمن كان ما زال على قيد الحياة من أبطال المسلسل الحقيقيين، واسُتقبلت زوجته الألمانية فالتراود بيتون في مصر، ومازالت ضيفة مهمة على فضائيات عدة.

وقد شاهدت لها قبل أيام حلقة في برنامج على قناة dw الألمانية الحكومية تتحدث فيه عن حبها وعشقها لرفعت ولمصر، وأنها مرحب بها في مصر دائمًا، وتتمنى لو أمضت بقية حياتها في مصر.

وقالت إنها فعلا لم تكن تعرف شيئًا عن عمل زوجها طوال زواجهما الذي استغرق 18 عامًا حتى رحيله، وأن اثنين من رجال المخابرات المصرية كانا في الجنازة من دون أن تعرف.

(الأهرام)

التعليقات