عرب المشرق والغرب

نحتاج إلى الكثير من العمل لنعود إلى ثقافة قصيدة "بلاد العرب أوطاني" للشاعر السوري فخري البارودي، وحاول المفكر العروبي مصطفى الفقي، مدير مكتبة الإسكندرية، الطرق على بوابة الحلم الأزلي، وهو لا يصيبه اليأس أبدًا من إمكانية تحقيقه، وتنظيم المكتبة أخيرًا لمؤتمر "العلاقات بين المشرق والمغرب العربيين.. ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً.. رؤى في إعادة كتابة التاريخ"، بمشاركة باحثين عرب مهتمين بإحياء ما كان..

والترحال بأشكاله بين المشرق والمغرب كان سياسيًا وتجاريًا وعسكريًا، وأيضًا ثقافيًا ودينيًا، ومضت كل صنوف الترحال وطويت، ولم يبق في الذاكرة كما في العمارة سوى الترحال الثقافي، كما عبرت عنه كتابات الرحالة الأثرية، والديني كما سجلته عمارة المساجد من غنى وتنوع.

لمس الدكتور مصطفى الفقي في كلمته في افتتاح المؤتمر هذه النقطة بحديثه عن إسكندرية كل الأسياد وأولياء الله من المغرب العربي، الذين كانوا في طريقهم من الحج، فيحلو لهم البقاء في الإسكندرية قليلاً، أو البقاء فيها طويلاً، فيحتفي بهم المريدون السكندريون موتى، كما كانوا يحتفون بهم أحياء، ويشيدون لهم الأضرحة والمقامات. تحدث الفقي عن الأصول المغاربية للكثير من العائلات في مرسى مطروح وغرب الإسكندرية وسيوه والفيوم والبحيرة، في استدلال على العلاقات الوثيقة بالمغرب العربي، وأشار إلى أن اللغة الأمازيغية مستخدمة في غرب مصر..

أما رئيس مركز جامعة الدول العربية في تونس الدكتور عبداللطيف عبيد فقد ألمح إلى أن الإسكندرية أيضًا هي التي اجتمع فيها قادة عرب في عام 1945؛ حيث صدرت "بروتوكولات الإسكندرية".

ووصف الإسكندرية بأنها باب المغرب، وواسطة العقد بين المشرق والمغرب، و"هي زهرة ساقها نهر النيل"... تعبير جميل.. وجديد.. وأضاف: "أنها مدينة مغاربية على أرض مصر.. وأنها مدينة شامية على أرض مصر".. وإذا أضفنا المحتوى الرائع لـ"زيزينيا" أسامة أنور عكاشة، وسيد حجاب عن التنوع المدهش لأهل إسكندرية، نكون خرجنا بمؤتمر عن سحر الإسكندرية..

كان العالم العربي والانتقال فيه ما بين المغرب والمشرق من دون تأشيرة، وكان الزائرون مرحبًا بهم في كل وقت من علماء وتجار ومتصوفة، فأتاح لنا بل وساهم في إنتاج الكبار من العلماء والفلاسفة والشيوخ، من ابن خلدون إلى أبو الحسن الشاذلي، ومن الإدريسي إلى ابن جبير فأحمد بن فضلان وابن ماجد إلى المرسي أبو العباس الشيخ الصوفي الأشهر في الإسكندرية.

كل "سيدي" في الإسكندرية هو مغاربي بالضرورة، وهم الذين وجدوا امتدادًا في أرض مصر في أماكن أخرى مثل طنطا والبحر الأحمر، وأشار بحث الأستاذ التونسي علي حمريت إلى امتداد مغاربي في العراق..

إذن كان الرحالة وغيرهم يتحركون في العالم العربي كما يشاءون، ويذهب البعض إلى أن هذه الحرية في الحركة كانت بسبب الدولة العثمانية التي بسطت سلطانها على كامل الأرض العربية.

وينتقد الدكتور خلف الميري هذه النقطة بالذات؛ لأن العرب تحولوا إلى رعايا الدولة العثمانية، وفقدوا استقلالهم أو كياناتهم السياسية، وأن التوحد كان في التبعية والخضوع لها بدرجات نسبية من ولاية إلى أخرى.

وقد رسخت الدولة العثمانية التخلف الذي ما زلنا نعانيه في العالم العربي بعد خمسة قرون من الاحتلال تحت دعوى الخلافة الإسلامية، وبعد أن ضعفت الدولة العثمانية، وجاء المحتل الغربي بعد المحتل "الإسلامي"، وجد فينا ضعفًا عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا ودينيًا... هذا ما تركنا عليه الاحتلال العثماني.. لا توجد مدارس ولا جامعات ولا جيش نظامي.. باسثناء الأزهر الذي لم يجد العثمانيون مفرًا من الإبقاء عليه؛ لأنهم يرفعون الشعار الإسلامي، وبالتالي لا يمكن أن يصدقهم الناس إذا أوقفوا العلم في الأزهر.

وإذا قرأت تاريخ أي دولة أوروبية، فإن الجامعات بدأت تنشأ على أحدث مستويات العلم اعتبارًا من القرن الخامس عشر في المدن والإمارات بشمال أوروبا وجنوبها.. وهو الوقت الذي دخل فيه العثمانيون إلى مصر وغيرها لينشروا الظلام الدامس..

ومن بعد القرن الخامس عشر قدمت أوروبا رحالتها وعلماءها ومستكشفيها في الداخل الأوروبي وفي الشرق الأدنى الأقرب إليهم والأقصى أيضًا..

بينما بدأت تنحسر الرحلة العربية في الحج والمكوث في مدينة عربية يطيب للحاج - سواء كان رجلاً عاديًا أو رحالة أو شيخًا - البقاء فيها..

لقد استسلمت الولايات المحلية التابعة للدولة العثمانية؛ بل نقول ارتاحت للحدود المفتوحة، والآن يجب إعادة زمن الوطن العربي الواحد، ليس عن طريق عودة الخلافة التركية - كما يريد الإخوان المسلمون - ولا عبر التوحد السياسي، فهو غير ممكن وتجاربنا الحديثة مؤلمة بما فيه الكفاية، ولكن عن طريق التنازل قليلا عن النعرة القطرية التي أدت إلى إضعاف الهوى العربي، ووقف تغذية الصراعات بين الدول العربية، ومنها ما هو رسمي وشعبي.

لقد استقلت الدول العربية عن المستعمرين الأجانب قبل نصف قرن؛ ولكنها استقلت عن الأخوة العربية في اليوم التالي، وهذه تعني في تصوري الحق في الانتقال الحر والعمل والتملك والمرور بين بوابات الحدود الوهمية.. لا نريد أن نرى الماضي نفسه، فالتكرار قد يكون مأساة، ولكن أتمنى رؤية الاتحاد العربي كما هو الحال بين الدول الأوروبية، والتي لا تتكلم لغة واحدة، ولكنها أسست لجسد واحد.

 

التعليقات