التعليم والجدوى

«لا جدوى» أو بالبلدى «مفيش فايدة» هى الفكرة الأساسية التى حملتها الكثير من تعليقات بعض الأفراد على نتائج الثانوية العامة. تجد أحدهم يقول معلقاً: (98% زى 50%.. كله هيقعد فى الآخر ع القهوة).. (فى ناس كتير بتذاكر وبتفشل.. وناس بتغش وبتمشى بسرعة الصاروخ).. (الشهادة ما لهاش قيمة من غير الواسطة).. (اتخرج دكتور أو مهندس هتاخد كام؟!).. مثل هذه التعليقات وغيرها تعكس إحساساً بالعدمية، لأنها ببساطة تحاول أن تترجم العلم والتعليم فى قيم مادية.. وتساوى بين الورقة التى تحمل المعرفة وورقة البنكنوت.

لست أنكر أن الكلام الذى تحمله هذه التعليقات واقعى إلى حد كبير. فلم يعد لصاحب العلم قيمة فى المجتمع، وقيمة العلم تتصاغر دائماً أمام قيمة المال. المال أصبح كل شىء، ومستودع كل قيمة. والعلم فى بلادنا لا يجلب مالاً لأن مجتمعنا ببساطة لا يوجد لديه طلب على العلم. أمور أخرى قد تكون أكثر جدوى، مثل العائلة أو الواسطة أو الرشوة أو الفهلوة أو البلطجة وغير ذلك. هذا التحول تستطيع أن تؤرخ له بداية من عصر الانفتاح 1974، حين تفوق المال على ما عداه من قيم. قبل هذا التاريخ، لم يكن الطلب على العلم كبيراً لكنه كان قائماً، فقد كان لدى المجتمع نوع من القناعة بأن العلم قادر على حل مشكلات تعجز القدرات المادية عن التعامل معها. يكفى فى هذا السياق أن نستشهد بنموذج الضابط مهندس «زكى باقى» صاحب فكرة استخدام مضخات المياه لفتح ثغرات فى خط بارليف (1973)، توفى هذا الضابط الفذ منذ عدة أيام، وقد ظل هذا «الزكى» «باقياً» فى الوجدان العام كعلامة على الذكاء المتوقد والعقل المتوهج القادر على تسخير العلم فى حل المشكلات الصعبة. مات زكى باقى عام 2018 ولم أسمع أن اسمه أطلق على شارع تخليداً لذكراه العطرة، لأن أغلب الشوارع مشغولة بإعلانات المال!.

العذر الوحيد الذى يمكن أن يبرر هذا الموقف العام من العلم وأصحابه أن التعليم فى مصر أصبح يمنح شهادة لا تتمتع بالدرجة المطلوبة من الثقة، ولا يمنح علماً حقيقياً يمكن الاعتماد عليه فى حل المشكلات، والذنب فى النهاية ذنب المجتمع الذى أعلى من قيمة الشهادة على ما عداها. الجرم الأخطر فى تقديرى وقع فيه أصحاب العلم ذاته، حين فهموا أن العلم لا بد أن يترجم فى قيم مالية مادية. من قال إن العلم يؤدى إلى ثراء صاحبه؟. أفهم أن يبحث أصحاب العلم عن الستر، وعن القليل الذى يوفر لهم متطلبات الاستمرار فى البحث والتعلم والإضافة، لكن الطمع فى أكثر من ذلك لا يتسق مع تركيبة العالم. أحزن كثيراً عندما أجد أسماء كبيرة لعلماء وأساتذة جامعات يقارنون دخولهم بدخول لاعبى كرة وفنانين. هذه مقارنة لا تليق. العلم فى حد ذاته ثروة، أى نوع من أنواع الثروة يزول ويبقى العلم. والمقدمة الأساسية التى ستدفع المجتمع لاحترام العلم وتحرك الطلب عليه هى أن يحترمه أهله وأصحابه.

التعليقات