صلّحوا العلاقات مع السودان

المتأمل لتاريخ الدولة العلوية (دولة محمد على باشا) يلاحظ فرط اهتمام حكامها بالتوغل فى الجنوب الأفريقى لمصر والسيطرة عليه. تمكن محمد على من ضم السودان إلى مصر، وفى عصر إسماعيل خاضت الدولة حروباً كبرى فى أفريقيا، وتمكن الخديو الطموح من ضم العديد من الأقاليم الأفريقية إلى المملكة المصرية، من بينها مصوع وسواكن وإقليم خط الاستواء وفاشودة وبحر الغزال وسلطنة دارفور وزيلع وبربرة وسلطنة هرر فى الحبشة وسواحل الصومال الشمالية، وبسطت الحماية المصرية على إقليم أوغندا. كان الهدف من السيطرة المصرية على هذه الإقليم مفهوماً، ويتعلق بالنيل ومياه النيل التى كانت تشكل عصب الاقتصاد الزراعى لمصر، وبعد ثورة يوليو 1952 استقل السودان، وتبدد الوجود المصرى فى أفريقيا.

مؤكد أن الزمان اختلف والدنيا تغيرت ولم تعد علاقات المصالح بين الدول تدار بمنطق استعمار الأقوى للأضعف، بل تدار بمنطق «التعاون المشترك» لتحقيق صالح الجميع، أو بمنطق «فيد واستفيد». وخلال العقود التى أعقبت ثورة 1952 كان هناك حرص من جانب الأنظمة السياسية التى حكمت مصر على إقامة علاقات متوازنة مع الدول الأفريقية -خصوصاً التى يجرى النيل فى أرضها- وكانت هناك علاقات خاصة تربطنا بالسودان، ارتقت فى بعض الفترات إلى صيغ واتفاقات تنص على مبدأ التكامل الاقتصادى. بدأ هذا المشهد فى التحول خلال فترة حكم «مبارك»، الذى أهمل ملف أفريقيا -كما تعلم- كل الإهمال، وهو ذات الملف الذى أهملته أيضاً أنظمة الحكم بعد ثورة 25 يناير، وكانت النتيجة أن مصر فقدت الكثير من حضورها وتأثيرها فى القرن الأفريقى، حتى مع دولة السودان التى استدعت منذ بضعة أيام سفيرها من القاهرة.

مشكلة الطرفين المصرى والسودانى أن كليهما يرتكن فى تعامله مع الآخر على «منطق التاريخ». مصر تنظر إلى السودان نظرة ماضوية، أساسها أن مصر الأقوى والأكبر، وأنها كانت تحكم فى يوم من الأيام هذا القطر، وأن السودانيين مطالبون فى كل الأحوال بالالتزام بالمصالح المصرية، دون النظر إلى حق السودان فى البحث عن مصالحه، ودون حسابات دقيقة لتأثيرات الزمن على علاقات القوة والضعف بين الطرفين. السودان هو الآخر يتعامل مع مصر برؤية ماضوية، مدارها أن مصر كانت دولة مستعمرة له، وأن المصرى لم يسقط من ذاكرته بعد أن أجداده كانوا يجلبون العبيد والرقيق من السودان للزج بهم فى أعمال السخرة، خلال فترة الحكم الملكى، وحقيقة الأمر أن مصر تدير علاقتها بالسودان منذ استقلاله عنها بمبدأ «الندية».

فى كل الأحوال يبقى أن التوتر العنيف الذى يضرب العلاقات المصرية السودانية الحالية سيكون له توابع جسيمة على كلا البلدين، وقد لا أبالغ إذا قلت إن توابعه أكبر وأشد على مصر، خصوصاً خلال الظرف الحالى الذى تواجه فيه تحدياً مرعباً فى إطار أزمة سد النهضة الإثيوبى. صانع القرار المصرى مطالب بأن يجعل ملف العلاقات المصرية السودانية على رأس أولوياته خلال عام 2018، فهذا العام سيشهد الانتهاء من سد النهضة وبدء الملء. ومؤكد أن مواجهة هذه الكارثة سيتطلب من مصر تحركاً لا يعلم إلا الله مداه، فلا أحد يستطيع التنبؤ بالمحطات التى يمكن أن نصل إليها فى سبيل الحفاظ على حصتنا من ماء النيل. صلّحوا مع السودان، هذا هو الأفيد!.

** نقلا عن الوطن

التعليقات