«إنتَ مش فاهم حاجة»!

تلك هى الجملة التى قالها الإرهابى، الذى هاجم كنيسة مارمينا وأراق دماء المصلين فيها، لـ«عم صلاح الموجى» الذى سارع إلى شل حركته بمجرد سقوطه على الأرض برصاصة صوبها إليه أحد ضباط شرطة حلوان. قال له: «إنتَ مش فاهم حاجة». الجملة معبرة من ناحية عن التركيبة العقلية للمتطرف المستحل لدم غيره، وهى دالة أشد الدلالة على واقع ثقافى أحياناً ما يدعم نمط التكفير القائم على نفى الآخر.

التركيبة العقلية لقاتل المصلين تتأسس على مثلث يشكل «احتكار الحقيقة» ضلعه الأول، و«احتكار الفهم» الضلع الثانى، و«احتكار السلوك» الضلع الثالث. احتكار الحقيقة مسألة مبدئية بالنسبة للعقلية المتطرفة، فهى تتحرك بقناعة لا تتزلزل بأنها على الحق المبين، وأن أى فكر منافٍ لتفكيرها يغوص فى الضلال، وأى علم يخالف علمها أباطيل، وأى معلم يقول بغير ما يقول به أميرها ضال ومضل. أغلب المتطرفين يجيدون الكلام أكثر من الاستماع، فكيف يستمعون وعندهم الحق الأبلج. لعلك تذكر العبارة التى كان يرددها الرئيس المعزول محمد مرسى: «الحق أبلج.. والباطل لجلج». أما احتكار الفهم فيتعلق بتفاعل الإنسان مع الأحداث المحيطة به. المتطرف يؤمن بأن فهمه للأحداث هو الحق المطلق، وأن أى رؤية بديلة لفهم الأشياء أو الأحداث على نحو معاكس له لا بد أن تكون من الشيطان. يظن المتطرف ظناً آثماً أن عقله أوعى وقلبه أتقى وإيمانه أنقى، أما غيره فملوثون. وهو لذلك يرى أنه -فيما يتصل بالسلوك- على الصراط المستقيم، حتى لو كان سلوكه قتلاً للنفس التى حرم الله قتلها إلا بالحق، النفس التى كتب الله أن من أحياها فقد أحيا الناس جميعاً، ومن قتلها بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً. إنه يسلك مسلك القتل لأنه يحدد الفساد على مزاجه الخاص، ويؤمن بأن ما ساقه إليه مزاجه هو الحق، وأن سلوك القتل المترتب على قناعته الشاذة بالحق أمر مشروع. المتطرف يرى أن من يريد الأخذ على يديه ومنعه من الإفساد فى الأرض «مش فاهم حاجة».

الجملة قادرة أيضاً على تلخيص حالة ثقافية أخشى أن تكون مسيطرة على أسلوب تفكير الكثيرين. استمع إلى أى نقاش يدور بين أصدقاء أو زملاء أو جيران أو داخل الأسرة أو داخل قاعة تعليم أو اجتماعات وغير ذلك إلى أشكال الحوارات العامة، ستجد متحدثاً يريد أن يتسلط، وعندما يقدم أى طرف محاور له رأياً أو رؤية بديلة يبادره بجملة «إنتَ مش فاهم حاجة»، أو بجملة معادلة لها فى الدلالة. يندر الآن أن تسمع من محاور عبارة: «أنا متفق معك فى هذا.. ومختلف معك فى ذاك»، يصعب أن تجد محاوراً لديه استعداد للاستماع والتفكير فى وجهة نظر مخالفة لما يقول. «إنتَ مش فاهم حاجة» جملة تلخص حالة ثقافية لا بد أن تفضى إلى التطرف، بغض النظر عن الشكل الذى يأخذه التطرف، فالتطرف ليس دينياً فقط، بل قد يأخذ أشكالاً أخرى. «إنتَ مش فاهم حاجة» جملة لا يرددها إلا لسان تربى فى حضن القهر، ويظل ماكثاً فى انتظار لحظة يمتلك فيها القوة ليقهر غيره من اللى مش فاهمين حاجة!

 

التعليقات